
يعتبر العفو حقا من حقوق الملك، حيث نص عليه في الفصل 58 من الدستور. ويستفيد منه أي شخص دون أي شرط قانوني، مهما كان سنه أو مهمته أو وضعه الصحي أو طبيعة الفعل الإجرامي، سواء كان مشتبها فيه أو متهما أو مدانا. ولأن العفو قرار سيادي صادر عن ملك البلاد، إلا أن الحكمة منه هي منح السجين فرصة لإصلاح الأخطاء القضائية ومكافأة المحكوم عليه ومنحه سبيلا جديدا للمصالحة.
ويعني العفو، من الناحية القانونية، انقضاء حق الدولة في تنفيذ العقوبة أو جزء منها، ويعفي المتهم المدان من تنفيذ العقوبة الصادرة في حقه، شريطة ألا يلحق ضررا بحقوق الغير.
يشمل العفو الفرد والجماعة، وغالبا ما يصدر العفو الجماعي بمناسبة عيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوي وعيد العرش، استنادا إلى توصيات لجنة العفو، التي تتكلف بدراسة الملتمسات وكذا الاقتراحات التي تقدم تلقائيا لهذه الغاية.
بمناسبة عيد الفطر، أصدر الملك محمد السادس عفوا شمل عددا من المدانين بالإرهاب، الذين أعلنوا توبتهم وخضعوا لعملية إصلاح طويلة استمرت لسنوات، ما اعتبره حقوقيون وناشطون خطوة إيجابية في مسار التصالح بين بعض المواطنين المدانين بجرائم ووطنهم وعودتهم إلى المجتمع واندماجهم فيه.
العفو الذي أصدره الملك محمد السادس، يوم الأحد الماضي، بمناسبة عيد الفطر، شمل 1533 شخصا بينهم 31 محكوما في قضايا “تطرف وإرهاب” بعد مراجعة مواقفهم وخضوعهم لتأهيل طويل الأمد، في بادرة إنسانية تشير إلى اعتماد المملكة سياسة معالجة التطرف وإعادة إدماج المحكومين في المجتمع.
في الملف الأسبوعي لـ”الأخبار”، نسلط الضوء على أبرز لمسات العفو، وكيف ساهمت في انتشال كثير من المدانين من بؤر الجريمة، وسنركز أيضا على ما بعد الاستفادة من العفو.
بعد العفو الملكي.. بلعيرج يستعد للعودة إلى بروكسيل
قبل يوم عيد الفطر، قال بيان صادر عن وزارة العدل إن “الملك محمد السادس أصدر عفوا على مجموعة من الأشخاص، منهم المعتقلون ومنهم الموجودون في حالة سراح المحكوم عليهم من طرف مختلف محاكم المملكة وعددهم 1533 شخصا”.
وبحسب البيان، فإن المستفيدين من العفو الملكي 1203 موجودون في حالة اعتقال، و299 شخصا كانوا في حالة سراح. وشمل العفو مجموعة من المحكومين في قضايا التطرف والإرهاب، بعدما أعلنوا بشكل رسمي تشبثهم بثوابت الأمة ومقدساتها وبالمؤسسات الوطنية، وبعد مراجعة مواقفهم وتوجهاتهم الفكرية ونبذهم للتطرف والإرهاب وعددهم 31 شخصا. ومن بين هؤلاء عبد القادر بلعيرج، الذي حكم عليه بالسجن المؤبد عام 2009، بتهمة قيادة شبكة إسلامية متطرفة.. وذلك بعد قضائه 16 سنة في السجن.
وكان بلعيرج، المتهم بتكوين خلية إرهابية أطلق عليها ساعتها “خلية بلعيرج”، قد تم ترحيله من سجن تولال 2 بمكناس إلى سجن لوداية بمراكش، بعد 13 سنة قضاها في السجن، حيث كانت زوجته قد تفاعلت مع تنقيله إلى سجن لوداية عبر تدوينة لها كتبت فيها: “إن هذه أخبار جيدة بحد ذاتها”، مؤكدة أن “حالة زوجها جيدة، وأنه في حالة أفضل الآن بمراكش”.
وكانت محكمة الرباط قد قضت بالحكم على بلعيرج بالسجن المؤبد، بتهمة قيادة مجموعة إسلامية مسلحة، فضلا عن اتهامه بتهريب السلاح وتهديد أمن الدولة، حيث كان قد مثل رفقة أزيد من 30 شخصا أمام غرفة الجنايات الابتدائية المكلفة بمكافحة قضايا الإرهاب. كما أن محكمة النقض كانت قد أيدت الحكم الصادر في حقه، فضلا عن إدانتها لـ33 شخصا آخر في الملف نفسه، ضمنهم شخصيات سياسية.
وحسب حيثيات قرار العفو، فإن الغاية منه “إدماج المتمتعين بالعفو في برامج إصلاحية وتدريبية وتأهيلية، ومنحهم فرصا جديدة لاستعادة دورهم الإيجابي كشركاء فاعلين في خدمة الوطن والتمسك بثوابته، انسجاما مع برنامج “مصالحة” الذي دشنته المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج.
فور مغادرته سجن لوداية، شرع عبد القادر بلعيرج، في إعداد وثائقه لمغادرة البلاد نحو بلجيكا، التي يحمل جنسيتها، وذلك أياما بعد حصوله على عفو ملكي. كما رفض الإداء بتصريحات للصحافة حول وجهته القادمة، إلا أن كل المؤشرات تؤكد عودته المرتقبة إلى مسقط رأسه الناظور، قبل السفر إلى بروكسيل وتحديدا حي مولنبيك.
العفو الملكي يحول رفيقي من جهادي إلى منشط إذاعي حداثي
اسمه المدون في الحالة المدنية هو محمد عبد الوهاب رفيقي، لكنه يحمل لقب “أبو حفص”. ولد في الدار البيضاء سنة 1974، وهو ابن داعية إسلامي يدعى أبو حذيفة أحمد رفيقي. منذ طفولته، ظل محمد حريصا على قراءة فكر الإخوان المسلمين، فتشبع بأفكار حسن البنا وسيد قطب.. بل إنه صعد إلى منصات الخطابة وعمره لا يتجاوز 14 ربيعا. حصل على الإجازة من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأخرى في القانون الدولي بفاس، وشهادة الماستر من المدينة ذاتها في “فقه الأموال في المذهب المالكي”، وهو ينهي آخر تفاصيل أطروحة لنيل شهادة دكتوراه خاصة بالنظام المالي في الإسلام.
كان أحد أشهر مشايخ “السلفية الجهادية”، قبل أن تنقلب حياته رأسا على عقب، بعد الأحداث الإرهابية التي ضربت الدار البيضاء يوم 16 ماي 2003، ليدخل السجن بتهم قانون الإرهاب، فقضى تسع سنين انتهت بعفو ملكي عليه وعدد من مشايخ السلفية الجهادية. وحين غادر المعتقل، ظل حريصا على تقديم محاضراته وآرائه المثيرة للجدل التي تلقى الكثير من المتابعة والنقاش.
قبل أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، دخل أبو حفص السجن رفقة زميله الشيخ حسن الكتاني، لكنه غادره ليعود إليه، بتهمة ضلوعه في توجيه منفذي التفجيرات من خلال خطبه وأفكاره، حيث كان الحكم في البداية يقضي بـ30 عاما سجنا، وتحول في المرحلة الاستئنافية إلى 25 عاما. غير أنه قضى منها زهاء 9 سنوات، ليعانق الحرية في 2012، بعد عفو ملكي عليه وعلى زمرة من مشايخ التيار السلفي بالسجون.
بعد معانقة الحرية، طرأ تحول كبير في فكر رفيقي، حيث انخرط في تجربة الانتماء إلى الأحزاب السياسية، التي كانت بالنسبة إليه من قبل مضيعة للوقت. وخاض تجربة الترشح للانتخابات البرلمانية سنة 2016 بلون حزب الاستقلال، دون أن يحالفه النجاح.
وتحول إلى محلل إعلامي في الشؤون الدينية، في كثير من المنابر، على غرار قناة الجزيرة القطرية، وقناة تيلي ماروك.. ولم يكتفِ بالظهور في الإعلام، بل صار فاعلا فيه، حيث قام بتنشيط برنامج “في العمق” بإذاعة إم إف إم.
وسيعود محمد عبد الوهاب رفيقي إلى التلفزيون في رمضان من خلال برنامج بعنوان “روحانيات” على القناة الأولى المغربية، إلا أن الكثير من زملاء الأمس تصدوا له دون تقديم مبررات التصدي.
الحسن الثاني يصدر عفوا يعيد ضحايا حملة التطهير إلى شركاتهم
لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني خارج النص، وهو يتحدث من على منصة البرلمان وأمام ممثلي الأمة، عن السكتة القلبية التي كانت تهدد المغرب. لذلك لم يكن متحمسا، وهو يحلم بتناوب جديد، وحكومة على شاكلة تلك التي تم وأدها في بداية الستينات، والتي سماها المتتبعون بحكومة الوطنيين، وقادها الراحل عبد الله إبراهيم، بأن يعود إلى سدة الحكم حزب الاستقلال أكثر من رغبته في أن يقود هذه التجربة الجديدة وجه من خصوم الأمس، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. غير أن نضج الشروط حينها تطلب من الحسن الثاني أن ينتظر إلى عام 1998، ليعلن عن ميلاد تناوب عبد الرحمان اليوسفي، وليس تناوب امحمد بوستة، الذي كان مقررا في 1996.
كان المغرب لا يزال تحت السلطة شبه المباشرة لرجل الشاوية إدريس البصري، وزير الداخلية الأقوى في كل حكومات المغرب الحديث. وكان لا بد أن يستثمر هذا الرجل تلك الثقة التي وضعها فيه الحسن الثاني ليصفي مرة حساباته، ولينتقم مرات أخرى ممن يعتبرهم خارج الصف. فقد اجتاحت المغرب في سنة 1996 موجة التطهير، وكان لا بد أن تأتي على الكثير من الأخضر واليابس، وجرت في طريقها الكثير من الأبرياء، الذين ضاعت رؤوس أموالهم، وأضحوا مفلسين.
سيتولى الملف وقتها وزير المالية محمد القباج الذي سيخبر الحسن الثاني، وهو برفقة مدير الجمارك، بوجود تجاوزات يقوم بها بعض الأشخاص في مجال الاستيراد المؤقت، قبل أن يسلماه لائحة من 30 اسما، ويقترحا عليه تحذير أولئك المستوردين عن طريق إنذارات كتابية أو بواسطة عناصر الأمن، مع منحهم مهلة سنة ليقوموا بحل المشاكل المتعلقة بنشاطهم الاقتصادي. لكن الملك رفض، وقال إن المعنيين بالأمر لن يردوا على الإنذارات الكتابية ولن يولوها أي اعتبار، ولذلك يبدو من الأحسن أن تستعين وزارة المالية وإدارة الجمارك بالسلطة، ليتحول الملف إلى يد إدريس البصري، الذي وجد الفرصة لتصفية الحسابات مع مدراء كبار.
أحدثت الحملة التطهيرية ضجة واسعة، خاصة على المستوى الحقوقي، بعدما دخلت العديد من الجمعيات على الخط، وانتقدت طريقة تدبير هذا الملف، ما دفع بالوزير المنتدب المكلف بحقوق الإنسان، محمد زيان، للإعلان عن استقالته على المباشر في برنامج تلفزي، احتجاجا على الطريقة التي سير بها وزير الداخلية ملف القضاء على التهريب.
وبعد مجموعة من الاجتماعات، بين الملك ووزير الداخلية ووزراء من الحكومة، انتهت العملية بإعلان الحسن الثاني صدور عفو لصالح جميع المدراء المعتقلين على خلفية هذا الملف في 16 أكتوبر من سنة 1997، فعادوا إلى نشاطهم الاقتصادي بعد انتهاء فترة التشميع.
سامي الجاي يعود بسرعة لمعانقة الميكروفون بعد العفو الملكي
ثمة سابقة في جرائم الصحافيين اهتزت لها مدينة طنجة، لكنها تختلف في وقائعها باختلاف غرائبها، وكان بطلها الصحافي سامي الجاي، الذي اشتغل لسنوات في جريدة “لوبينيون”، الناطقة باللغة الفرنسية والتابعة لحزب الاستقلال، قبل أن ينضم في بداية الثمانينيات إلى إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية “ميدي 1″، وكان حينها نجم الميكروفون بدون منازع، كما كان يحظى بإعجاب الملك الراحل الحسن الثاني.
غير أن المذيع اتهم بارتكاب جريمة قتل لم تكن تخطر على البال، بعدما أدين بقتل زوجته ووضع جثمانها في شبه حديقة صغيرة في شقته بوسط المدينة، وظل يناجي ضحيته في كل مساء حينما تغيب الشمس ويحمل قيثارته للغناء على سنوات العشق بينهما.
حسب محضر الاتهام فإن سامي الجاي قطع جسد زوجته، ودفنها في حديقة منزله، ولما كان يستدعي ضيوفه وينتشي ويغني، يردد في نهاية الحفل بالفرنسية: “الخطأ ليس مني ولكنه منك”، ولم يكن الحاضرون وقتها يعرفون لماذا كان يكرر هذه الجملة في نهاية كل حفلة كان يدعو إليها أصدقاءه.
استطاع سامي الجاي إخفاء جريمته لسنوات، حتى اعتقد أن فعلته طي النسيان من طرف الأجهزة الأمنية التي لم يهدأ لها بال، واستمرت في تحرياتها وإجراءاتها، وقبل اكتشاف الجثة. لم يكن أحد يتخيل أن المتهم هو الزوج الذي تستحق أن تكون قصتها فيلما، أو تنبش في مطبوع قد يكون الأكثر مبيعا من بين الكتب.
قررت الأجهزة الأمنية أن تقوم بهدم المنزل بحثا عن آثار جثة مفترضة للزوجة، كآخر خيط من خيوط فك طلاسم الحكاية، لتنكشف الحقيقة التي لم تخطر على بال أحد، ويتم اعتقاله في يونيو 1989 بعد اعترافه بفعلته أمام عناصر الشرطة القضائية.
قضت المحكمة في حقه بالسجن مدى الحياة، غير أنه تم إطلاق سراحه بعفو ملكي في غشت 2001، بعدما قضى 12 سنة في السجن، بفضل سلوكه الحسن. اشتغل بعد خروجه من السجن كمحرر في القناة الثانية ثم مسؤولا عن الموقع الإلكتروني لنفس القناة ومستشارا في ما بعد لأكثر من محطة إذاعية. لم يكن سامي بحاجة إلى فترة استئناس بالعمل الإعلامي فقد استعاد بسرعة قدراته ونباهته الصحافية.
البصري يضع العصا في عجلة العفو على المعارضين
يقول امبارك بودرقة، في مذكراته، إن تفعيل العفو الملكي مع عدد كبير من اللاجئين السياسيين في فرنسا، على خلفية أحداث السبعينيات منذ انتفضاة 1973، وقبلها في أحداث 1963، بدا أمرا بعيد المنال، بسبب العراقيل الكثيرة التي وضعت أمامهم. إذ إن بيروقراطية الإدارة سنة 1994، حالت دون الاستماع إلى طلبات مئات المعارضين المغاربة الذين كانوا لاجئين في أوروبا، لاسيما في باريس.
بين رفاق الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، وقدماء المقاومة الذين جاؤوا إلى فرنسا من الجزائر بعد محاكمة يوليوز 1963، كان الجميع يشتركون في وضع الترقب في انتظار الضوء الأخضر لعودتهم إلى المغرب، ومنهم من بقي منفيا خارجه لثلاثين سنة، في ذلك الوقت. ومنهم من قصد القنصليات المغربية، لكن دون نتيجة. اعتبر الكثيرون أن مسألة الطلب سوف تنقص من القيمة الرمزية لقرار العفو، ورفضوا مقترحا كان يقضي بتسلم ورقة تسمح بدخول المغرب، بدل جواز سفر مغربي ساري المفعول.
قرر امبارك بودرقة، أو “عباس” لقبه الحركي أيام الثورة، في أن يستثمر علاقة قديمة مع سفير المغرب في باريس، لعلها تثمر في حل الأزمة.
يقول: “بدت الأبواب موصدة، فطرقنا باب السفارة المغربية بباريس، التي كان على رأسها آنذاك عباس الفاسي، وقمنا بمراسلة الجهات المسؤولة في الداخل، حيث كاتبنا الوزير الأول ووزير الشؤون الخارجية ووزير الداخلية ووزير حقوق الإنسان، كما خاطبنا مختلف الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية المغربية، طلبا للدعم ومناشدة المساندة. فكان تفاعل القوى الحية ببلادنا في مستوى الانتظارات، إذ لبت مختلف الهيئات الحقوقية والنقابات والأحزاب الوطنية شعار ندائنا ومارست ضغوطات كبيرة، كل من موقعها وحسب إمكانياتها. لم نتلق أي جواب من السفارة المغربية بباريس، إذ آثرت الصمت والتجاهل لطلبنا القاضي بضرورة التفعيل الإيجابي لقرار العفو، فاقترحت توجيه رسالة أخرى إلى السفارة نفسها، لكن هذه المرة تحمل توقيعي الشخصي باسم مكتب التجمع الذي كنت أتحمل فيه المسؤولية. راهنت حينها على علاقة مهنية ونضالية جمعتني قبل أزيد من عشرين سنة بالسفير عباس الفاسي، يوم كان محاميا بمكتب امحمد بوستة، في الوقت الذي كنت فيه محاميا متمرنا بمكتب عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الصديقي. أتى ذلك الرهان أكله، وتلقينا بعد أيام قليلة جوابا إيجابيا، فتح لنا باب السفارة المغربية بباريس، حيث استقبلنا السيد عباس الفاسي، ضمن وفد عن مكتب التجمع ضم كلا من الأخ حسن حاج ناصر وعبد الحق كاص وبودرقة امبارك”.
ظهر أن تفعيل هذا القرار كان بدوره يحتاج إلى قرار يوجد في دهاليز ما كانت تسمى وقتها بأم الوزارات، إذ تأكد بالملموس أن قرار التفعيل ليس بيد السفير. فقد جاء وزير المالية السابق محمد برادة سفيرا جديدا بباريس، خلفا لعباس الفاسي، و”استمر نفس منطق التسويف والتماطل الخارج عن إرادة ليس فقط السفير، بل حتى وزير حقوق الإنسان يومها عمر عزيمان، الذي زار باريس والتقيناه، ووعدنا خيرا دون نتيجة تذكر”.
لم يكن أمر الحصول على الجوازات المغربية للعودة إلى الوطن سهلا. ومسألة تدخل وزارة الداخلية، التي يتحكم إدريس البصري في كل تفاصيلها وحتى كواليسها الدقيقة، أصبحت في ما بعد حقيقة تاريخية لا ينكرها أحد.
يحكي بودرقة لاحقا، في مذكراته، عن مشكلة أبراهام السرفاتي التي تحولت إلى نقطة أساسية، ووحيدة في بعض الحالات، والتي نوقشت في مكتب السفير المغربي برادة، في باريس، وهي الجلسات التي كانت ماراثونية، في السعي نحو طي الصفحة، لكي تتهاوى بعدها العراقيل التي وضعت أمام حل مشكلة المغاربة المنفيين منذ ما أطلق عليها “سنوات الرصاص”.
جنازة والدة عليوة تمكنه من عفو غير معلن
شعر خالد عليوة، الرئيس المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي، بحبل يلف عنقه، حين علم عبر محاميه بقرار إغلاق الحدود في وجهه، رفقة بعض المديرين السابقين الذين وردت أسماؤهم في تقرير المجلس الأعلى للحسابات المرتبط بتبذير أموال عمومية وسوء التسيير. جاء قرار إغلاق الحدود في وجه عليوة ومن معه بناء على المعطيات التي توصلت إليها عناصر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في إطار فتح ملفات الفساد.
لكن قبل حلول عيد الأضحى سارع رفاق خالد عليوة، المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي، والوزير الاتحادي الأسبق، إلى وضع ملتمس يقضي بمنحه السراح المؤقت، في القضية التي كان يتابع فيها إلى جانب عبد الحنين بنعلو، المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات، في ملف اختلاسات وتبديد أموال المؤسستين.
تلقى خالد تطمينات بقضاء العيد بين أهله ودويه، لكن المحكمة رفضت، رغم أن كل المؤشرات كانت تتحدث عن إفراج قبيل العيد، ليتأجل الحلم الذي راود المتهمين في قضايا فساد مالي. وينتظرا سويا فاجعة وفاة والدته كل منهما لينعم خالد وعبد الحنين بفسحة حرية للضرورة الجنائزية.
بقرار من ملك البلاد ولاعتبارات إنسانية، تمكن المدير العام الأسبق للقرض العقاري والسياحي، من مغادرة عكاشة متوجها إلى مقبرة الشهداء، حيث رخص له بحضور جنازة والدته التي وافتها المنية. توصلت إدارة السجن برسالة تتضمن ترخيصا لخالد بمغادرة المعتقل لمدة أربعة أيام، “لكي يحضر دفن والدته، ويقوم بواجب العزاء”.
يوم 4 مارس 2013، خرج خالد عليوة من سجنه، ولم يعد إليه. لم يتمتع وقتها الرئيس المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي سوى برخصة من أربعة أيام لحضور جنازة والدته، لكن سرعان ما تحولت متابعته في حال اعتقال إلى متابعة في حال سراح، ويبدو أن عليوة لا يرى أي فرق بينه وبين أي شخص قضى عقوبته كاملة، أو خرج من زنزانته ولم يعد، وحده قرار المنع من مغادرة الوطن ظل ساري المفعول.
وكان التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات (2009) قد خص خالد عليوة، الرئيس المدير العام الأسبق للقرض السياحي والعقاري، بحصة الأسد (44 صفحة)، ضمن الجزء الخاص بمراقبة التدبير واستعمال الأموال العمومية بالقطاعات الاقتصادية والمالية.
عمر الرداد يصبح ممثلا في فيلم “عمر قتلني” بعد عفو بتدخل ملكي
لم تكن زوجة عمر الرداد تدرك أن زوجها، المهاجر البسيط الذي كان يقضي سحابة يومه في تقليم النباتات بحثا عن كسرة خبز مغتربة، سيصبح أشهر سجين في تاريخ القضاء الفرنسي، فقد جاء ابن منطقة ميضار، التابعة لإقليم الدرويش، إلى فرنسا أملا في جمع المال فوجد نفسه أشهر معتقل، بعد إدانته بتهمة قتل مشغلته الثرية جيزلين مارشال، التي كان يرعى حديقة منزلها في جنوب فرنسا. وعلى الرغم من إنكاره التهمة ومواصلة التمسك ببراءته من الجريمة، فقد أدانته المحكمة بعدما استند القضاة إلى عبارة كتبتها الضحية بدمها على باب القبو الذي وقعت فيه الحادثة وقالت فيها “عمر قتلني”.
سيق المتهم إلى السجن ليمضي فيه عدة سنوات، قبل أن ينجح محاميه الشهير جاك فيرجيس في إجراءات إعادة المحاكمة، وانتهت القضية بإطلاق سراح العامل المغربي الذي تعاطف معه الفرنسيون، بعفو رئاسي خاص من الرئيس شيراك، بتدخل من الملك الراحل الحسن الثاني من دون تبرئته من التهمة.
في الرابع والعشرين من يونيو 1991، عثر على جيزلين قتيلة تسبح في دمائها وسط غرفة معزولة في حديقة بيتها، مخصصة للتدفئة، ومنذ ذلك الحين بدأت القضية التي انتهت في القصور وفي المؤتمرات قبل أن ينتهي بها الأمر في مهرجانات السينما بعد أن تحولت إلى فيلم سينمائي.
حين نطق القاضي بالحكم بالسجن لمدة 18 عاما على عمر الرداد، صرخت زوجته لطيفة وانتحبت ولطمت وجهها وهي تقول: “زوجي بريء.. زوجي مظلوم”. وانهارت قبل أن تستفيق في سرير مصحة لا تبعد كثيرا عن المحكمة. لكن لطيفة ستتحول إلى مخاطب رسمي لكبار مستشاري الحسن الثاني الذي ظل يرسل لها موفدين من القصر لإبلاغها بجهود الملك من أجل تبرئة زوجها عمر، فآمنت بأن الملف بيد ملك البلاد، لكنها خرجت من عباءة الحشمة وجالست ممثلي جمعية أنشئت لمساندة زوجها عمر كما حضرت وقفات احتجاجية طيلة فترة اعتقال الرداد، كما سعت مرارا إلى استبدال المحامين.
طالبت النيابة العامة بإعدام الرداد، بل إن جمعيات متطرفة نادت بتوقيع عقوبة سالبة للحياة ضد البستاني، ما جعل القضية تتحول إلى قضية رأي عام، حتى أنها أصبحت ورقة من أوراق الأحزاب اليمينة المتطرفة في فرنسا.
حين أفرج عن عمر بعفو رئاسي، قررت لطيفة الاستمرار في نضالها من أجل استخلاص البراءة، ولاحظ الرداد أن لطيفة تغيرت كثيرا، وعاب عليها خروجها إلى الواجهة، حين تفاوضت مع منتج فيلم حول قضيته بعنوان “عمر قتلني”.
بوساطة من الراضي.. الحسن الثاني يصدر عفوا عن المعارضين اليساريين
كشف القيادي الاتحادي عبد الواحد الراضي، في شريط وثائقي على القناة الأولى (الرواد)، عن لقاء جمع الحسن الثاني بالزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد، حول العلاقة المتوترة بين الطرفين، حيث كانت افتتاحياته في “جريدة الاستقلال” تغضب القصر، وكان الجميع ينتظر لحظة صدورها بما في ذلك الملك الحسن الثاني.
ولأن “رب ضارة نافعة”، فقد كان لاعتقال عدد من قادة الحزب سنة 1963 والحكم على بعضهم بالإعدام بتهمة التهييء لانقلاب على نظام الحكم بالغ الأثر على عبد الرحيم بوعبيد وعلاقته بالملك الراحل الحسن الثاني، لكن اندلاع أحداث مظاهرات مارس 1965 التي خلفت العديد من الضحايا فضلا عن إعلان حالة الاستثناء، دفعت الطرفين إلى البحث عن طريقة لتلطيف الأجواء السياسية، لهذا التقى الملك ببوعبيد في إيفران، وهو الاجتماع الذي أعقبه إعلان العفو عن أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المحكومين بعقوبات حبسية مختلفة.
في مذكرات عبد الرحيم، التي صدرت بعد عشر سنوات على رحيله، يكشف القيادي الاتحادي عن تفاصيل هذا اللقاء: “لم أطالب الملك بإطلاق سراح المعتقلين الاتحاديين، وبعد ذلك رجع عندي المبعوث الخاص نفسه وهو السلاوي وأخبرني أنه سيتم إطلاق سراح المعتقلين وطلب مني أن أكون إلى جانب مبعوث الملك لحظة الإفراج عنهم، فسألته عن هوية مبعوث الملك فقال لي إنه الجنرال أوفقير، حينها أخبرته باستحالة استقبالي للمعتقلين وأرسلت مبعوثا من الحزب لاستقبالهم”.
التقى عبد الرحيم مجددا بالملك في مدينة مراكش، بعد مغادرته سجن ميسور، إثر صدور عفو ملكي عليه رفقة القياديين محمد الحبابي ومحمد اليازغي، وهو اللقاء الذي لعب فيه عبد الواحد الراضي دورا بارزا في عقده، وكانت المناسبة هي انعقاد الأممية الاشتراكية في المغرب.
قال الراضي: “سألني الملك الراحل عن أخبار السي عبد الرحيم وعن صحته وحالته بعد مغادرته ميسور، فأجبته أنه بخير الحمد لله، فطلب مني أن أخبره برغبته في لقاء بوعبيد وأن يتصل أحدنا بمولاي عبد الحفيظ العلوي من أجل تحديد موعد، ومباشرة بعد مغادرتي القصر الملكي توجهت للقاء عبد الرحيم بوعبيد لإخباره ووقع الاتصال بمولاي عبد الحفيظ العلوي وبالفعل تم تحديد موعد لقاء السي عبد الرحيم بالملك الحسن الثاني بعد خروج الأول من السجن”. وأضاف الراضي الذي كان شاهدا على هذا اللقاء الذي كان لدرجة حرارته “عبارة عن لقاء بين صديقين مدة طويلة لم يلتقيا”.