قم بتنزيل تطبيق الأخبار بريس: App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

دبلوماسية ملك

د. خالد فتحي

مقالات ذات صلة

 

قُضي الأمر، واستقام المنسم، وثبتت الصحراء على رؤوس الأشهاد في مغربها. المشهد يوم 31 أكتوبر أكبر من قدرة الكلمات على التعبير. لم يكن لحظة شعور بالنصر فقط، ولا مجرد فرحة عارمة استبدت بكل بيت مغربي. لقد كان عبارة عن توحد شعب وملكه بالمجد والعظمة والفخر.

قبله بيومين، قال مسعد بولس، مستشار الرئيس ترامب، إن العالم سينتظر خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، وسيستمزج النوايا الصادقة للمملكة ملكًا وشعبًا. لكن الشعب الذي ضحى من أجل صحرائه، وبذل في سبيلها المهج والغالي والنفيس، انطلق إلى الشوارع في مسيرات تلقائية مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن… مسيرات أعادت أجواء المسيرة الخضراء، فما أروعها وما أبلغها من خمسينية أهداها لنا ملكنا، الذي خضنا معه منذ توليه العرش هذه الملحمة الدبلوماسية، إلى أن عشنا معه ذروة نجاحها وتألقها مساء الجمعة مباشرة من نيويورك…

دبلوماسية أبحر في لجّتها بصبر الملوك، وحنكة الحكماء، ودهاء القادة المتبصرين، وصدق وعزيمة الرواد. لذلك كله، لم يكن لجلالة الملك أن ينتظر أو يؤجل لحظة الحديث إلى شعبه عن النصر المؤزر؛ فخاطبه وهو في أوج فرحه وسعادته، بعد ساعة واحدة من قرار مجلس الأمن…

تراه كيف كان له أن لا يتوجه لشعبه في هذا الوقت بالذات، الذي تشرئب فيه كل الأعناق إلى المغرب؟ كيف لا يفعل ذلك والتاريخ قد دعاه كي يسمع العالم صوت الحكمة والرزانة والتعقل؟ فهو الملك الاستراتيجي، الملك المحب للسلم والصانع للسلام.

كيف لا يقيد محمد السادس هذه الصفحة الذهبية من تاريخ المغرب بهذه الخطبة العصماء التي، ولا شك، ستُخلّد ضمن عيون الخطب درسًا بليغًا في النبل والشهامة والعفو عند المقدرة.

هل كان القرار القادم من نيويورك، الذي أخرج المغاربة، قرارًا تاريخيًا إلى هذا الحد؟ هذا مؤكد، ولكن هذا الوصف لا يشفي الغليل ولا يفي تمامًا بالمعنى.. إنه فتح مبين كما جاء في الآية الكريمة.

هل كانت تلك البهجة ناجمة عن إحساس الاعتراف بالحق لأصحابه؟ نعم، ولكن هذا لا يلخص كل القضية. هل هو إذن رد جميل من أمريكا التي اعترف بها المغرب أولاً؟ كلا، فالمسألة أعمق من تبادل اعترافات بين أمريكا والمغرب.. ففرنسا وبريطانيا أيدتا القرار تأييدًا، وامتناع الصين وروسيا كان حيادًا أبلغ في دلالته من التصويت بنعم.

في طلعته هاته، التي تابعها المغاربة، تتجلى الصورة البهية للملك المواطن، صاحب براءة إبداع هذا الحل العبقري، الذي شكله الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية في ظل السيادة المغربية.

حقًا لقد أنجزت الدبلوماسية الملكية ما يشبه المعجزة، التي لا تقل عن المسيرة الخضراء نفسها… حلقة جديدة من حلقات المجد تنتظم ضمن المسار المغربي المجيد عبر القرون.

لقد انتصر المغرب لأن الحق يزهق دومًا الباطل ولو بعد حين، ولأن الملكية حين تكون ملكية مواطِنة منصهرة بالشعب تفعل بثقة ونجاح الاستراتيجيات الناجعة البعيدة المدى.

لقد ناضلت الدبلوماسية الملكية على عدة واجهات: حراك متواصل في إفريقيا، إعادة بناء تحالفات على المستوى العالمي، فتح للقنصليات بصحرائنا، وتنمية سريعة وفعالة للأقاليم الجنوبية، ومقاومة لا هوادة فيها للأجندات المعاكسة للحق المغربي.

كل ذلك كان يتم من خلال ركائز أساسية حددها جلالة الملك عقيدة لدبلوماسيتنا يمكن تلخيصها في مرتكزين: السيادة المغربية غير قابلة للتفاوض، وصداقتنا مع الغير نحددها من منظار الموقف من صحرائنا المغربية.

ببذل هذه الجهود الجبارة، وبإعمال هذه المبادئ الموجهة، حصدنا الدعم الدولي وحققنا تطلعاتنا، فكان خطاب الجمعة البيان الذي لخص كل مسيرتنا النضالية، بل وكان ميلادًا جديدًا للمغرب الذي نريده، وبعثًا للمغرب الكبير.

أليس هذا ما يقصده الملك من النعت المعبّر الذي اعتبر تصويت مجلس الأمن يومًا فاصلاً بين عهدين: عهد ما قبل القرار وعهد ما بعده؟

لم ينبش الملك في خطابه الماضي ولم ينكأ الجراح، بل فتح أبواب الغد، وتحدث عن المستقبل، وعن ما يمثله هذا التحول الدولي الأبرز منذ عقود في ملف الصحراء، بالنسبة لآمال الناس وتطلعاتهم وأحلامهم، سواء في المغرب الموحد أو في منطقتنا المغاربية.

لقد وصلت رسالتك يا جلالة الملك. المغرب بعد 31 من أكتوبر لم يعد يدير نزاعًا، بل صار يصيغ الأفق ويصنع الحل ويقوده في محيطه الإقليمي.

انتقلنا، كما وعدتنا ذات خطاب قريب وجهته لنواب الأمة، من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير، لكننا لم نتوقع أن يكون هذا التغيير بكل هذه الرحابة وهذا الاتساع.

ثلثا دول العالم باتت تعتبر الحكم الذاتي المغربي الإطار الواقعي الوحيد للحل، فيما تحولت القوى الكبرى إلى شريكة في الاستثمار والتنمية تحت السيادة المغربية.

الصحراء اليوم ليست طرف الوطن، بل قلبه النابض، إنها رمز نهضة وطنية ستمتد من طنجة إلى الكويرة، ومعبر حلم مغاربي يتشكل على ضوء رؤية ملك لا يكتفي بحدود الجغرافيا، بل يرسم خريطة الأمل للشعوب الشقيقة بأكملها.

سيتذكر الجميع أن الملوك الكبار يترفعون عن لغة الغلبة، فالخطاب الملكي لم يحمل نبرة المنتصر، بل لهجة الرائد الذي يفتح الأبواب. لم يكن خطاب تحدٍّ، بل دعوة للحلم والمسؤولية.

فهذه التحولات، كما قال جلالته، لا ينبغي تضييعها بتأجيج الصراع، بل توظيفها بذكاء وإيثار في صالح الشعوب المغاربية كلها التي أرهقها هذا الصراع المفتعل.

دعوتُه الصادقة لإخواننا المغاربة في مخيمات تندوف إلى العودة للوطن، للمشاركة في بناء مستقبلهم في ظل الحكم الذاتي، هي دعوة نابعة من قلب ملك رحيم قبل أن تكون نابعة من الدولة، ومن قيمة الحب قبل أن تكون تفاوضًا أو إملاءً من إملاءات السياسة.

وكذلك كان توجه جلالته إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بنداءٍ صادق لحوارٍ أخويٍ، يقوم على الثقة والاحترام وحسن الجوار، دلالة على أن الكبار يلتقطون المحطات المفصلية في حياة الشعوب، فيمدون الجسور، ويزيحون الجدران، ويشيعون السلم ويبددون الضغائن. تلك هي لغة الكبار التي تجعل النصر منفذًا للسلام لا ذريعة للصدام.

ما قاله محمد السادس ليلة الجمعة كان إعلانًا سياسيًا، ووثيقة تأسيس، وبيانًا استراتيجيًا يرسم أفقًا جديدًا للمنطقة بأكملها.

القرار الأممي والدعم الدولي الواسع، كما قرأهما الملك، ليسا تتويجًا لمعركة فحسب، بل دعوة لولادة مغربٍ كبيرٍ موحد الإرادة والمصير، يستند إلى حكمة الرباط، وانفتاح الجزائر وطموح شعوبٍ تتطلع إلى التكامل والانصهار لا إلى القطيعة والعداء.

ومرة أخرى، توجد الجزائر في مفترق طرق. مسؤوليتها كبيرة تجاه شعبها وتجاه شعوب المغرب العربي. استمرارها في مناكفة المغرب غير ذي جدوى، وسيكون مكلفًا لها ولشعبها وجريمة في حق المنطقة كلها وأجيالها المقبلة.

لقد انتصر الملك سليل الدوحة النبوية في خطابه لشعب الجزائر، حين دعا نظامه إلى الكف عن ظلمه في حق آمال المغاربيين.. فكم أهدر هذا النظام فرصًا عديدة على أمتنا، كانت أولاها تولي محمد السادس العرش، ثم اقتراحه لحل الحكم الذاتي، وبعد ذلك دعواته المتكررة لقصر المرادية لنبذ الخلافات العقيمة والتوجه للمستقبل.

وسيظل المغاربة يذكرون هذه الليلة، ودموعهم المذروفة فرحًا، وهتافهم بوحدة المغرب، ورفعهم الأعلام وسماعهم الخطاب كما لو أنهم كانوا بصدد صلاة وطنية جماعية.

قبل خمسين سنة، خرج المغاربة في المسيرة الخضراء يحملون القرآن والعلم لتحرير الأرض. واليوم، يقودهم الملك في مسيرة جديدة لتحرير المستقبل. المسيرة الأولى فتحت الصحراء، والثانية تفتح التاريخ كله على مصراعيه، ليس أمام المغرب فحسب، بل أمام الجزائر وليبيا وتونس وموريتانيا. إنها مسيرة الوعي والسيادة والبناء والتقدم، التي يدعونا إليها جلالته، ليس كمغاربة فقط وإنما كمغاربيين.

قم بتنزيل تطبيق الأخبار بريس: App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى