شوف تشوف

الرأي

عض أصابع بين واشنطن وطهران

سامح راشد

بعد أسابيع من الغزل المتبادل بين طهران وواشنطن، فجأة، وما إن دلف جو بايدن إلى البيت الأبيض، أخذت الإشارات الإيجابية تنحسر وتحل محلها بوادر تصعيد وتهديد متبادلين، فأخذ المسؤولون الأمريكيون يطالبون طهران بوقف الأنشطة النووية، والعودة إلى الالتزام بمقتضيات الاتفاق النووي. وجاء الرد الإيراني سريعا بأن على واشنطن العودة إلى الاتفاق، لأنها من انسحبت منه، وعليها العودة أولا.
وهكذا دخلت إيران والولايات المتحدة الأمريكية في سجال تصعيدي مفهوم ومبرر، في ظل الحرص الشديد من الطرفين على رفع سقف المطالب التفاوضية، قبل أن يبدأ التفاوض الرسمي. غير أن السخونة التي تغلف الأوضاع في الشرق الأوسط نقلت التصعيد المتبادل في الخطاب إلى منطقة الفعل ورد الفعل العملي، وليس الكلامي، فتعرض مطار أربيل في العراق إلى قصف صاروخي كان يستهدف نقطة تمركز جنود أمريكيين. وفي سياق الرد، وجهت واشنطن ضربة جوية إلى مواقع تابعة لميليشيات موالية لإيران، متمركزة على الحدود السورية العراقية. وعلى الرغم من أن «البنتاغون» أعلن عن الضربة، وقال إنها وقعت داخل الأراضي السورية، إلا أن فصائل موالية للحشد الشعبي العراقي أكدت أنها كانت داخل الجانب العراقي من الحدود. وأعلنت كتائب حزب الله العراقي أن أحد عناصرها لقي مصرعه في القصف.
وسواء كان القصف داخل سوريا أم داخل أراضي العراق، المهم أن الهدف كان معلنا، وهو أذرع إيران العاملة في الميدان السوري. وفيما بدا واضحا أن تلك الضربة رد مباشر على قصف مطار أربيل، لا يمكن اعتبار تلك التحرشات المتبادلة متعلقة بالعراق حصرا بوصفه ساحة وحيدة للتراشق و«عض الأصابع». بل على العكس، ربما كان العراق هو آخر تلك الميادين التي يمكن للطرفين خوض معاركهما فيها. إلى حد يمكن معه اعتبار تلك بداية خجولة لمزيد من المشاكسات في نقاط أخرى.
ولكن لأن تلك النقاط أكثر قابلية للاشتعال، وربما تفجير الموقف الإقليمي ككل، فإن اختيار العراق بداية يعكس، في التحليل النهائي، رغبة متبادلة في أن يكون الاشتباك محدود النطاق ومدروسا بدقة، خصوصا أن التعقيدات المصاحبة لنقاط الاشتعال الأخرى، سيما في سوريا واليمن، تخرجها من الدائرة المحدودة لعض الأصابع، فهي كفيلة بتفجير الشرق الأوسط كله في أيام قليلة. كما أن لعبة الشد والجذب الجارية حاليا ليست بهدف تحصيل مكاسب مباشرة في هذا الملف أو ذاك، وإنما لتحسين المواقف التفاوضية في المسار الأساسي للعلاقة بين طهران وواشنطن، وهو مسار البحث عن تفاهمات، وليس قطع الطرق المؤدية إليها.
وكشأن كل تحول مهم في التفاعل بين المستويين، الإقليمي والعالمي، فإن العلاقة بين القوى الكبرى وإحدى دول المنطقة، إيران أو غيرها، تقابَل بالضرورة بحالة تربص وعراقيل من الأطراف المتضررة. وفي الحالة الراهنة، تتعدد الأطراف المعنية بعرقلة الموقف بين طهران وواشنطن وتعقيده، وهو فيه ما فيه من تعقيدات ذاتية، بل يحظى على الجانبين بكثير من القوى الداخلية المناوئة لهذا التوجه. ولكن الأطراف الإقليمية تظل قادرة بدورها على وضع عصا، بل عصي في الدواليب. ولا بيئة مواتية لتلك التحركات المعرقلة، من عملية عض الأصابع الجارية والاستفزازات التكتيكية التي يمارسها الطرفان حاليا.
ولا يعني ذلك أن التحسن في العلاقات الأمريكية الإيرانية أمر جيد، ويصب في مصلحة استقرار المنطقة، أو أن الدول المتضررة غير محقة. بل ربما العكس، فإذا لم يكن التقارب محكوما بمحددات موضوعية تحافظ على حقوق دول المنطقة واستقرارها، فإن أي تحسن بين طهران وواشنطن سيصب مزيدا من الزيت فوق نيران التوتر والاحتقان الإقليمي. لكن مكمن الخطر اللحظي أن التمادي في لعبة عض الأصابع يفتح الباب أمام تدخلات وتحركات أطراف قد لا يهمها استقرار المنطقة، ولا أمانها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى