الرأي

الإنسان قبل 32 ألف سنة

بقلم: خالص جلبي

عندما حاول المؤرخون قديما التأمل في الزمن وامتداده إلى الخلف أصيبوا بما يشبه الدوار وفقد التوازن، في محاولة تصور الزمن المتدفق الممتد في نظم لا يعرف التوقف، وغشيهم الضباب وهم يحاولون تقدير الزمن الذي مر على عمر الأرض، وشعروا أنفسهم أنهم أمام هوة لا قرار لها، أو نفق لا ترى نهايته، أو أفق كثيف السواد لا تطوق العين مداه ولا يخترق البصر سدوله. هو أشبه بباب مغلق لا سبيل إلى سر مفتاحه، وحقل لا يسبر غوره، وفضاء ينقلب فيه البصر خاسئا وهو حسير؛ فتراوحت الأرقام التي وضعوها بين (3139) سنة في محيط الثقافة الإيرانية، و(4642) سنة عند اليهود، وارتفعت عند النصارى الأرثوذكس لتصل إلى (5992) سنة وبضعة أشهر (زيادة في الدقة!). أما المؤرخون في محيط الفكر الإسلامي القديم، فلم يخطر في بالهم أكثر من سبعة آلاف سنة، واعتبر بعضهم أن ستة آلاف وخمسمائة سنة مضت، ولم يبق أمام انهيار العالم ونهايته سوى خمسمائة عام فقط، فقد جاء في تاريخ الأمم والملوك للطبري ـ المجلد الأول ـ ص (9 ـ 10) قوله:
«إن أولى القولين اللذين ذكرت في مبلغ قدر مدة جميع الزمان … أنه جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وإذا كان كذلك … كان معلوما أن الماضي من الدنيا قدر ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة .. فهذا الذي قلنا في قدر مدة أزمان الدنيا من مبدأ أولها إلى منتهى آخرها، من أثبت ما قيل في ذلك عندنا من القول للشواهد الدالة، التي بيناها على صحة ذلك». وبالطبع فهم معذورون في ضوء غياب أي تقنية متطورة لمعرفة عمر الأرض، واستنطاق العظام، وحديث الشجر، ولغة الطبقات الجيولوجية، فضلا عن تقنيات إعادة تصنيع شكل الحياة مرة أخرى، كما هو الحال الآن في تقنيات الليزر لإعادة تركيب جمجمة إنسان نياندرتال، كما كان صاحبها يحملها ويمشي بها، أو المعاهد الجديدة المتطورة التي تعيد تشكيل الهيكل العظمي في ما يشبه متحف الشمع لمدام توسو.

لو بعث الطبري هذه الأيام
لو بعث (الطبري) هذه الأيام وتليت عليه الأرقام الحديثة عن عمر الأرض وبداية الحياة ورحلة الإنسان على وجه الأرض؛ لصعق من جبروت الأرقام الفلكية، في امتداد الزمن الذي كشف عن سره العلم الحديث، وصُدِم بأن العالم الذي توقع نهايته في مدى خمسة قرون ما زال حيا يبعث، واكتشف أن قصارى الرقم الذي قفز إليه سقف تخيله وهو سبعة آلاف سنة، يعتبر رقما هزيلا بسيطا في غاية التواضع، مع عمر الأرض الذي يمتد إلى 4,6 مليارات سنة، وبداية عديدات الخلايا التي باشرت رحلتها على وجه الأرض قبل ما يزيد على نصف مليار سنة، وبداية رحلة الإنسان التي شقت الطريق قبل حوالي خمسة ملايين من السنين؛ بل حتى البدايات المتواضعة التي تم إماطة اللثام عنها عندما بدأ الإنسان العاقل الرحلة الثقافية، والتي تعود إلى ما لا يقل عن 32 ألف سنة، كما حدث مع كشف مغارة شوفي (CHAUVET)، حذاء وادي نهر (الأرديش ARDECHE) بفرنسا، الذي هز الأوساط العلمية وضرب الرقم القياسي في أقدم كهف إنساني، وأثار الدهشة في كمية غير معقولة من الرسومات والصور، تجاوزت الثلاثمائة حيوان من فصائل شتى، من الحصان والماموت وغزال الرنة والأسد والبيزون ووحيد القرن والثور البري، في مناظر فنية خلابة وكأنها صالات متحف (اللوفر) في باريس، ولكن في العصر الحجري، بألوان ما زالت تحافظ على قوتها إلى اليوم على جدران ذلك الكهف السحيق المظلم. فما قصة هذا الكشف؟ وما وراء حياة الكهوف هذه؟ وما معنى رسومات الكهوف القديمة عند إنسان العصر الحجري؟ هذا ما يحاول علماء الأركيولوجيا الإجابة عنه اليوم.

قصة مغارة شوفي وعمر الرسومات داخلها
كانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساء، حيث بدأ الليل يرخي سدوله؛ ولكن مجموعة الباحثين الأركيولوجيين الثلاثة ما زالوا في غمرة حماسهم، وهم يشقون طريقهم بين الصخور والأشجار التي تغطي منطقة وادي نهر (الأرديش ARDECHE) في جنوب فرنسا. صاحت السيدة (إيلييت ـ برونيل ـ ديشامبELIETTE – BRUNEL – DESCHAMPS): «إنها حفرة صغيرة تفتح على قاع بعمق عشرة أمتار في الأسفل، إنه كهف كبير للغاية». تقدم رئيس الفريق هاوي الآثار، (جان ماري شوفي JEAN – MARIE – CHAUVET)، ومساعده (كريستيان هيلير CHRISTIAN – HILLAIRE) وصرخ بأعلى صوته، فضاع صوته في عمق الكهف.
كان اليوم يوافق الثامن عشر من دجنبر من عام 1994 م. مع كل التعب الذي عانوه من عمل ذلك اليوم، ولكن روح الكشف والبحث أعطتهم المزيد من الجلد للمتابعة. وبدؤوا ينزلون درجات السلم الذي وضعوه درجة فأخرى. وعندما استوت أقدامهم على أرض الكهف، أناروا جدرانه بكاشف ضوئي قوي، وكانت المفاجأة أروع من الخيال، فقد بدأت رسوم لا نهاية لها تتلالأ تحت أنوار الكشاف من حيوانات شتى، بين مجموعة مندفعة من الأسود، واثنين من حيوان وحيد القرن في حالة مواجهة، وعدد من فيلة الماموت، وأخرى من الغزلان، في ألوان بهيجة من الأسود والأحمر والبني، وفي فن مقتدر حاذق يشير إلى حب الإنسان للفن منذ أن بدأ رحلة الوجود.

لو بعث (الطبري) هذه الأيام وتليت عليه الأرقام الحديثة عن عمر الأرض وبداية الحياة ورحلة الإنسان على وجه الأرض؛ لصعق من جبروت الأرقام الفلكية، في امتداد الزمن الذي كشف عن سره العلم الحديث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى