الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (2 – 12)

بقلم: خالص جلبي

في دروس جودت كانت الأوضاع ساخنة في سوريا، بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة، وبداية حملة اضطهاد للاتجاه الديني الذي انتقد وصوله إلى السلطة وبدأ مناجزته. وبعد وصولي بأقل من سنة، دخلت سجن المزة العسكري لمدة 39 يوما، وهي ثلاثة أضعاف المدة التي قضيتها في مخابرات القامشلي العسكرية، قبل عام من تاريخه. وكان ذلك عام 1963 م في ربيع السنة، قبل امتحانات الثانوية (البكالوريا) بشهرين، وأنا أستعد للقفزة الجامعية، فتم اعتقالي بسبب أحداث مدينة حماة احترازيا. وزربنا أنا و30 شخصا في قبو المخابرات العسكرية، وكنت آخر من خرج في الليلة 14 من الاعتقال، قبل دخول امتحان الثانوية العامة بـ43 يوما. مع هذا حضرت نفسي للامتحان في ما تبقى من الوقت، ونجحت بتفوق وكنت الأول في المحافظة (مثل مقاطعة دكالة في المغرب)، ودخلت كلية الطب. وكانت أيام الاعتقالات في ذلك الزمن نزهة لما حدث بعد ذلك. وهو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون. وكذب به قومك وهو الحق، قلت لست عليكم بوكيل. حاليا تم التضحية بمليون إنسان، في تعذيب جهنمي يوحي بقرب نهاية النظام الطائفي البعثي الدموي المقيت.
وأما سبب دخولي المعتقل في سجن المزة العسكري للمرة الثانية، وهي واحدة من أصل أربعة اعتقالات تعرضت لها في ظل نظام البعث بين عامي 1963م و1973م. وكان سبب اعتقالي في المرة الثانية، أحداث المسجد الأموي، واعتقل جودت يومها ولكن لم نجتمع سوية وإنما اجتمعنا بشاب اسمه (مروان الخياط رحمه الله) كان معنا في المهجع نفسه بسجن المزة العسكري، فنقل لنا طرفا من أفكار جودت بإعجاب. وما زلت أتذكر قراءة الخياط لسورة «العنكبوت»: «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون». واليوم بعد مرور كل هذا الوقت، ما زالت سوريا ترزح تحت الديكتاتورية البعثية، ويدخل جيل جديد الاعتقالات وأقبية الموت بسبب دخوله الإنترنت، حتى يأذن الله بالفرج. كما حصل مع عبد الرحمن شفيق الشاغوري، ابن سعدية أخت الشيخ، فقد دخل السجن بسبب قراءته لمقالات للمعارضة، وأرسلها إلى بعض من يعرف. ودخل السجن بتاريخ 23 فبراير 2003م، وبقي رهن الاعتقال لمدة سنتين ونصف السنة، من أجل توزيع مقالتين ونصف المقالة على بعض ممن يعرف.
ويومها في عام 1964م اشتركنا في مظاهرة دعا إليها أناس لم نعرفهم، فوقعنا في الفخ، ولا يستبعد أن تكون السلطة قد فعلت ذلك استدراجا للمغفلين وترويعا للمعارضة التي كانت تقف في الشارع يومها، تلا ذلك قتل الأمة ودخولها السبات الشتوي في البراد البعثي لمدة سبعة عقود، حتى انفجر الربيع العربي عام 2011م. وهذا الذي حصل معنا، فقد كان فخا لنا نحن الفئران البشرية، وكانوا يسمحون لمن يدخل المسجد الأموي ويلقون القبض على من يخرج. عندها شعرت أنني وقعت في المصيدة ولا خلاص.
واقتحم البعثيون المسجد الأموي يومها (عام 1964) بالرصاص والعربات العسكرية، وقتل أناس وتكومنا فوق بعض في صحن المسجد مثل تلة من أجساد البشر، والكل يحتمي بالكل مثل الفئران المذعورة من فرقعة الرصاص. وكان مما فعله البعثيون يومها أن قتلوا ضابطا حمصيا، ورموا جثته أمام عتبة المسجد الأموي وانهالوا علينا بالضرب، فكنا نقفز مثل الأرانب المذعورة، أو كأننا كما قال القرآن: «كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة»، أي حمر وحشية تهرب من مطاردة الأسد، ونحن كنا كذلك مع نظام الأسد الإجرامي.
وما زلت أتذكر والبشر يقفزون أمام رجل يلوح بمسدسين في يديه، فإذا وصلوا إلى باب المسجد الأموي قفزوا فوق العتبة. ونظرا لأن جثة الضابط الحمصي كانت ممددة أمام العتبة تماما، فكان الجميع يقفز فيطأ الجثة. فعلوا ذلك تنكيلا به وبنا، أن يهرس بعضنا البعض. وكانت الواقعة في أيام رمضان فلما قفزت أدركت في اللحظة الأخيرة أنني سأطأ الرجل بقدمي، فقفزت بأشد وأبعد، فنجوت من دهسه. عليهم من الله ما يستحقون. وفي النهاية حشرونا في المسكية، وهي آخر سوق الحميدية، قبل دخول الأموي قرابة خمسة آلاف شخص في مساحة لا تتسع لأكثر من مائتي شخص، وكان بين يدي شاب صغير دمشقي يكاد يختنق، فحملته بيدي ورفعته ليستنشق الهواء فلا يختنق، ومر أمامنا ضابط علوي طائفي، فكان يدخن وينفث دخان سيجارته في وجوهنا زيادة في الإغاظة، لأننا كنا في الشهر الفضيل رمضان.
إنها وقائع انحفرت في الذاكرة ولا أنساها. وعندما حملونا في السيارات العسكرية، لفت نظري تدفق الحياة بشكل عادي في الشوارع، وكأن شيئا لم يحدث. ثم إنهم هددونا بالإعدام، ولكن لم أصدقهم. وفي النهاية أفرغت السيارات حمولتها أمام سجن المزة العسكري بين صفين من الجنود، يضربوننا عن اليمين والشمال. حتى إذا دخلنا السجن حشرونا في مهاجع كبيرة على شكل ممر في النصف ومصاطب عالية على الجانبين، وكان جلاد درزي (من الأقليات) يضرب من يحشر أمامه في المنتصف بحزام جلدي (على كل ضربنا الدرزي والعلوي والسني)، وضربني في إحدى الليالي (شاوي)، أي بدوي من ريف دير الزور أو البوكمال لا أعرف تماما، بكابل من سلك كهربائي على رأسي، فما زلت أتذكر مرارة الألم حتى اليوم. وكانت الضربة على قفاي فأصاب القذال ونجاني الله من نزف دماغي. وكان الجلاد الدرزي قد ضرب من الناس العدد الكبير وقد تعرق وتعب من شدة إيذائه للناس؛ فلما دخلت قفزت إلى المصطبة فنجوت ولم يلاحظني، وإلا أصبحت كالرميم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى