الرأي

الجزائريون لن يعودوا إلى القفص

توفيق رباحي
أسبوع بعد أسبوع يقطع النظام الجزائري خطوات جديدة في طريق العودة إلى وجهه الحقيقي المتجذر منذ عقود. أيا كانت الأسماء التي في واجهة هذا النظام، عقيدة الاستبداد واحدة وثابتة. أما ما عاشته الجزائر في الأسابيع الأولى من حراك 22 فبراير من رومانسية ومودة بين المجتمع ورموز النظام، فكانت مرحلة استثنائية وعابرة. أصل العلاقة بين الجزائريين والنظام الذي يحكمهم هو الرفض وانعدام الثقة، في الاتجاهين.
إذا استمر الحال على ما هو اليوم كل ثلاثاء، الموعد الأسبوعي لتظاهرات طلاب الجامعات، وكل جمعة، الموعد الأسبوعي لتظاهرات الحراك، إلى غاية 12 دجنبر تاريخ انتخابات الرئاسة، سيكون القمع قد قطع أشواطا غير مسبوقة. هذا أكيد. ما ليس أكيدا هو أن يحقق الذين يأمرون بهذا القمع ويشرفون عليه مبتغاهم منه.
وإذا استمر القمع والمطاردات الأمنية وسجن المعارضين السلميين ظلما وبلا محاكمات، وهو ما لم يحدث حتى في أحلك أيام حكم المخلوع، إذا استمر هذا فمعنى ذلك أن النظام، بقيادة رئيس أركان الجيش، لم يستوعب شيئا من الدروس المحلية والإقليمية، القريبة والبعيدة، وما أكثرها. وهذا مؤسف ومخيف، لأنه يعني إعادة إنتاج نفس الأخطاء والمصائب التي تقود إلى نفس النتائج.
ما نحن فيه حاليا من عنف جسدي ولفظي بحق المعارضين، علامة مقلقة على أن الرجال الذين على رأس النظام لم يستوعبوا أهم عنوان في الدرس، وهو أن هذا الشعب لن يعود إلى القفص، مهما اشتد القمع واتسع. لن يعود، ليس فقط لأنه يرفض العودة، بل أيضا لأنها سيرورة تاريخية: عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، إلا في الخيال والأمنيات المستحيلة.
يستطيع النظام أن يفرض انتخابات رئاسية تسفر عن فوز مرشحه المفضل، الذي يوفر الأمان السياسي والشخصي لبعض رموزه لبعض الوقت، تماما كما حدث في انتخابات 1999، وربما أسوأ منها. لكن هذا «الحل» يشبه سيدة تكنس غبار صالون بيتها إلا تحت السجاد. وبهذا «الحل» على رجال هذا النظام أن يستعدوا لجولة أخرى من المواجهة مع المجتمع.
قد يأتي الرئيس الجديد، لكنه سيكون مبتورا مرتين: من الشرعية الشعبية الكافية، ومن القدرة على الحكم. وهذان التفصيلان يملآن حيزا واسعا في وصفة الانهيار التي لحقت بالأنظمة المستبدة الفاسدة في المنطقة.
هكذا جاء بوتفليقة واستمر في الحكم. وهكذا استمر زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد. فدخل كل منهم التاريخ على طريقته. أفضلهم حالا وأوفرهم حظا يجلس على أطلال بلد جميل كان يسمى سوريا.
مَن صدَّق أن بوتفليقة كان سيطاح به يوما ويغادر منصبه ذليلا وحيدا؟ لو كان لديه ولدى اللصوص الذين أحاطوا به عقل، لوضعوا احتمالا، ولو ضئيلا، لتلك اللحظة التاريخية.
أتيح لي أن أتعرف على ليبيين قضوا أعمارهم في الخارج قسرا. طالت بهم وبأبنائهم وأحفادهم السنوات، حتى فقدوا الأمل في أن غمة معمر القذافي ستزول يوما. لكن الرجل انتهى إلى ما انتهى إليه بالطريقة البشعة التي انتهى بها، لأنه لم ينظر للأشياء بعقل: 40 عاما على رأس الدولة، ثم يقول للناس: «أنا لا أحكم»!
ولديَّ أصدقاء تونسيون منذ عقود، نالهم قمع فاحش في عهد زين العابدين بن علي، انتُهكت أعراضهم وممتلكاتهم وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، المحظوظون منهم نجحوا في الفرار إلى الخارج وتمكن منهم اليأس في رؤية تغيير ما يحدث في حياتهم. كانت أقصى أمنيات أشدهم معارضة لنظام بن علي أن يتنازل الأخير قليلا ويرضى بإصلاحات سياسية ودستورية تفتح متنفسا، ولو ضيقا، من الحرية. لكن كثيرين منهم مُنحوا عمرا أتاح لهم رؤية بن علي يفر إلى غير رجعة في يوم تاريخي.
الذين يتظاهرون في شوارع المدن الجزائرية لم ينطل عليهم التهديد والوعيد بـ«العشرية الحمراء»، لأنهم لم يعيشوها ولا يعرفونها إلا سردا غير منتظم. ولم ينفع معه التخويف بسوريا وليبيا واليمن، لأنهم فهموا بسرعة أن تلك التجارب استُعملت ذريعة يختبئ وراءها الفاسدون ليواصلوا فسادهم. وقد احترقت في المهد أكذوبة أن الذين يواصلون التظاهر عملاء للخارج أو تحركهم فرنسا، لأنها أغبى من أن يصدقها عقل متزن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى