حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الحياة الفارغة

يسرا طارق

 

تتساءل إلزا غودار، في مستهل كتابها «الحيوات الفارغة.. حاجتنا للاعتراف لا يمكن إشباعها»، «من أين جاءت هذه الحاجة لأن يكون المرء مرئيا، هذا البحث الذي لا يكل عن الوجاهة، هذا العطش الذي لا يرتوي؟ كيف نفسر بأنه من الإنسان الغفل الأكثر تكتما إلى الأستاذ المبجل، كل واحد منهما يبحث عن ربع ساعة من المجد في وسائل التواصل الاجتماعي، كما في وسائل الاتصال؟ وراء ماذا يجري هذا العالم الذي يدور حول الشعبية؟ من أين أتى بحثنا عن أن نوجد دون أن نبحث أبدا عن أن نعيش؟».

بعد ذلك تستعرض إلزا ثلاث فرضيات للإجابة عن هذه الأسئلة:

الفرضية الأولى، وهي الأكثر بداهة، ما يدفعنا لأن نكون مرئيين، من طرف أكبر عدد ممكن من الناس، هو الخوف من أن لا نُرى، فأن لا نُرى هو أن لا نوجد. فنظر الآخر يُثبّت وجودي الخاص، وفي جواب عن سؤال لماذا نقضي وقتنا في البحث عن نظرة وكلام الآخر الذي يؤكد لنا وجودنا؟ ذَكَّرت بمحاولتها الجواب عن هذا السؤال في كتابها «je selfie donc je suis»، الذي طورت فيه فكرة أن وراء هذا الهوس بالوجود وبأي ثمن، ووراء الحاجة لأن يكون الواحد مرئيا يكمن خوف من الموت: أن تكون لا مرئيا لا يعني أن لا تُرى، بل يعني أنك ميت.

الفرضية الثانية، واستعارتها من كارلو سترنغر، من كتابه «الخوف من أن لا نذكر يجعلنا مجانين» (2011)، والذي يرى فيه أننا ما دمنا عالقين في حداثة المنافسة والنجاح، فنحن مستعدون لكل شيء من أجل أن نشهد «ربع ساعة مجدنا» لأننا نُروع لفكرة «خسارة حياتنا»، أن لا نكون في المستوى، أن نخفق، أن لا ندرك أهدافنا، فنحن نوجد بما نملك وبما نحقق، وهكذا فالخوف من أن لا نذكر يترجم خوف أن لا نكون شيئا، أن نخسر حياتنا.

الفرضية الثالثة، وهي التي كتبت من أجلها الكتاب، مفادها أن هذا السلوك المدهش، وهو يوجه ويكيف بعض سلوكاتنا، لا يترجم الخوف من أن لا نُرى، وأن لا نكون شيئا، بل هو محاولة، بالكاد مُقَنَّعة، لإخفاء الفراغ نفسه. وحاولت في صفحات الكتاب أن تبين أن هذا البحث عن المجد والوجاهة، والشعبية والشهرة، أي «الاعتراف» في معناه الوجودي الواسع، يخفي فراغ حيواتنا، لا وجود وجودنا، إخفاقنا في أن نوجد، غياباتنا، نسياننا، فالخوف من الفراغ هو الذي يكيف علاقتنا مع الاعتراف، لهذا نريد أن نوجد بأي ثمن لنهرب من فراغ حيواتنا. إن الفراغ الذي نعبره ليس فقط فراغا اجتماعيا، إيديولوجيا، ولا هو فراغ وجودي، فراغ الاكتئاب أو الانتحار، إنه فراغ لا دلالة له، فراغ مصنوع من لا شيء، وهو فراغ معد ومنتشر يضع أمامه عدة حقائق: أن نعيش فهذه محنة، معركة، صراع. إنها تراجيديا حقيقية نعرف نهايتها، أن نعيش أمر يرهق وهو مجاني، لكنه لا يمنح شيئا.

لهذا ترى إلزا، في ختام الكتاب، أن حيواتنا صارت فارغة، فراغا نحاول أن نحمي أنفسنا منه. إنه فراغ مذل، فراغ يولد قلقا آسرا. نحاول أن نخفيه بأي ثمن، لهذا ندأب على البحث عن «ملء» هذه الفراغات بالطريقة الأقل إرهاقا، من خلال إعادة ابتكار حيواتنا الخاصة تحت شكل وجود. إننا نعيد كتابة التاريخ- تاريخ حبنا، تاريخ جسدنا، تاريخ عطلنا، تاريخ نجاحاتنا، وتمنحنا وسائل التواصل والعالم الافتراضي هذه القدرة السحرية على إعادة ابتكار حيواتنا، وإعادة بنائها كما نشتهي، وهناك طريقة واحدة للخروج من كل هذا هي أن نتصرف كفلاسفة، وأن تكون لنا شجاعة التواضع فنقاتل من جديد من أجل الحقيقة، بقوة الشفاه والقلب والأيدي. ينبغي أن تكون لنا شجاعة أن نعيش دون أن يكون لنا أبدًا يقين الوجود.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى