
الذخائر 1993
العامل الداخلي والخارجي في ولادة الأحداث (1- 2)
بقلم: خالص جلبي
حين نرى حادث سير لا نفاجأ قط بأن كل واحد من الطرفين يعزو السبب إلى الطرف المقابل؛ بل قد يحدث نزاع وشجار، ومنه نشأت الحكومات التي تفصل في النزاعات بين البشر، والمحاكم والقضاة والمحامين وقصر العدل، الذي ليس للعدل دوما. السبب وراء كل هذه الظاهرة، هو أن كل واحد يظن أنه على حق، وأن الآخر شر مطلق. تأملوا في نزاعات الطلاق بين الزوجين، كيف يلتقيان بالحب والمودة، وكيف تنتهي العلاقة بالخصومة والعداوة، وأن الآخر شر مطلق وأنه الخير العميم. ولو أن كل طرف اعترف بأن نفسه جزء من المشكلة، اقتربت المشكلة من الحل، أي تحديد العنصر الداخلي في ما يحدث. لنحاول تفكيك هذه المسألة التي هي مفصل في أحداث الكون وتصاريف الدهر؟
ما هو السبب خلف سقوط غصن أو اندلاع حرب؟ ما هو عامل هزيمة أمة وتفشي مرض (كما في فيروس «كوفيد- 19»، الذي ضرب الجنس البشري عام 2019م)؟ ما هي المسببات الرئيسية خلف انفجار ثورة، كما في الربيع العربي وحروب ليبيا وسوريا واليمن، وما هو السبب خلف تفكك دولة، كما كان الحال مع تفكك يوغسلافيا الدموي، بين صرب وكروات وبوسنة؟ ما هو سر تحلل الحضارات كما حصل مع أمريكا العالم القديم، الحضارة الفرعونية؟ هل هناك رؤية مشتركة لفهم خلفية ولادة كل هذه الواقعات، التي يخيل لنا أنها غير متشابهة، وهي متشابهة؟ هل يمكن وضع اليد أو قنص السر المخفي خلف القانون المهيمن لخروج هذه الحوادث إلى السطح؟ هل هناك رؤية أنطولوجية (وجودية مشتركة) لكل هذه الأحداث غير المتناسقة والمتشابهة، غير المتناسقة في مظهرها الخارجي، والمتشابهة في خلفية علة ولادتها.
مع مواجهة كل أزمة تاريخية، أو الوقوع في كارثة قومية يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام إلى العدو الخارجي، ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة؟
إن هذا الضرب من التفكير ليس فقط أنه لا يقود إلى حل المشكلة والخروج من الورطة بسلام، بل يقود إلى نوع من المرض النفسي الخطير، فطالما كانت ذواتنا خارج حقل المشكلة، بقي الحل في الظلام بعيدا عن متناول اليد، وبقيت بالتالي ذواتنا مبرأة عن أي خطأ، والمساهمة في أي خلل، فذواتنا فوق الخطأ ودون النقد ولا تقترب منها يد التشريح وأدوات السبر. واستمر الخطأ يقود إلى مزيد من الخطأ، بتعطل آلية تصحيح الخطأ، فالعثور على كبش فداء جاهز يفرمل آليات الجهد الذاتي بشكل كامل مطبق، فعندما يكون المتسبب في الخطأ خارج ذاتنا، يتولد عنه تلقائيا أمران: الراحة النفسية بالعثور على سبب وهمي، وإيقاف كل آلية يمكن أن تتدخل في مسار الأحداث لإصلاحها.
في مستوى الطبيعة يطرح السؤال نفسه، ما الذي يتسبب في سقوط غصن ما، هل هي الريح؟ لو كانت الريح سببا لسقطت كل الأوراق، وتناثرت كل الأغصان! ولما سقطت الأوراق بدون ريح في فصل الخريف! فلا عنفوان الريح أسقط كل الأوراق، ولا هدوءها حمى الأوراق من التهاوي.
البحث الأعمق يصل إلى اكتشاف عنصر خفي لا تراه العين بسرعة، هو قوة ارتباط الورقة بالشجرة، فالعنصر الخارجي الممثل بالريح لعب دورا واضحا عاصفا مثيرا ظاهرا للعيان، ولكن النخر الداخلي مختبئ خفي لا يطل برأسه، إلا بالبحث المنظم المعمق التأملي السببي.
العامل الخارجي تضافر مع العامل الداخلي في ولادة الحدث، ولكن العامل الداخلي هو الذي هيأ الظروف الموضوعية لولادة الحدث، وسقوط الورق وتناثر الأغصان.
وفي مستوى البيولوجيا مع حدوث (المرض العضوي) وخلل البيولوجيا، يلتفت الناس إلى الجرثوم أو الفيروس الخبيث، الذي فجر عاصفة المرض، ولكن الجرثوم موجود دوما، ولا يصاب كل الناس في كل الأوقات مع حضور الجرثوم ووجوده الدائمين، وفي كل فوهاتنا وداخل أمعائنا ومع كل وجبة طعام تزدحم الملايين من طوابير البكتيريا، وينسى الناس أو لا يدركون دور جهاز المناعة الداخلي في تنظيم السلامة والمرض.
يا ترى ما هو المرض؟ وما هي الصحة طبيا وفلسفيا؟
الصحة هي حالة التوازن بين هجوم جرثومي لا يعرف الاستراحة والتقاعد والإجازة، وبين جهاز مناعي تأخذه السنة والنوم أحيانا لسبب أو آخر فينهار، ومع انكسار التوازن يتولد المرض، فيسقط الإنسان طريح الفراش لإعادة آليات التوازن إلى مسارها الطبيعي، بتغلب جهاز المناعة «الداخلي» على العدو الخارجي، الممثل في الجرثوم والفيروس وسواهما. ويلعب الدواء والغذاء والراحة دور العناصر المساندة والمريحة، لإتمام وتنشيط آليات عمل جهاز المناعة الداخلي للقضاء على المرض، وسحق الهجوم الجرثومي.
وفي المستوى النفسي يفضح شعور المجرم سلوكه ويدلل عليه، كما في قصة حكيم القرية الذي أراد ضبط لص القرية، فجمعهم في صعيد واحد، وصاح بهم: «إن لصنا لم يكتف بجريمته، بل قام يتبجح بها، فينصب على رأسه ريشة طاووس زاهية الألوان»، فعمد أحدهم الى رأسه فمسحه، فتسابقت الأيدي إليه تحكم الخناق عليه.
نافذة:
مع مواجهة كل أزمة تاريخية أو الوقوع في كارثة قومية يطيب لنا توجيه أصبع الاتهام إلى العدو الخارجي ولكن هل هذا مخرج للمصيبة أو حل للمشكلة




