الرأي

العصر الحجري الحديث

يونس جنوحي

حتى في الأزمنة التي كنا نعيش فيها تحت ثقل الاستعمار الإداري والعسكري الفرنسي، لم تكن هناك إهانة للنبي الكريم ولا لرموز الإسلام. بل حتى الأضرحة والزوايا، علما أن تيارات من المحافظين المغاربة حاربوا وجودها من الداخل، كان يتم توقيرها واستثناؤها أثناء التوسع العسكري الفرنسي في المغرب سنة 1914.
أول ما قامت به فرنسا الاستعمارية عسكريا، إعداد تقارير عسكرية سرية عن الوضع الديني المغربي. وضعوا خارطة لقراءة الأمن الروحي للمغاربة وقاموا بتوقير المقدسات وتركوها جانبا. صحيح أن المقيم العام ليوطي فطن إلى قوة الزوايا في المجتمعات القبلية واستقطب رموزها لكي يحاولوا التأثير في الناس ويُقنعوهم بتقبل وجود فرنسا في المغرب، لكن على الأقل كان هناك «توقير» لمقدسات الإسلام ولم تُسجل إلا حالات قليلة لتضرر مساجد بالقصف الفرنسي. لكن لم تتم نهائيا السخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من تعاليم الدين الإسلامي ولا حتى من التقاليد المحافظة المنسوبة للإسلام رغم أنها ليست من الدين في شيء.
واليوم، توجد كنائس بجانب المساجد، في مدن منها الدار البيضاء، مكناس، ومراكش وتارودانت وورززات ومناطق أخرى لا تزال مقابر الفرنسيين فيها محفوظة.
ولعل الرئيس ماكرون يعرف أن قبر جدة جاك شيراك الذي سبقه إلى الرئاسة لا يزال موجودا في مقبرة صغيرة بقلب تارودانت. شيراك الذي كان يعرف المسلمين جيدا وبقي وفيا لزيارة المدينة القديمة التي بها مسجد يعتبر من أقدم دور العبادة في القارة الإفريقية لم يبن حملته الانتخابية على استفزاز مشاعر المسلمين رغم ضغوطات اليمين الفرنسي في كل المناسبات الانتخابية التي شارك فيها شيراك سواء للفوز بعمودية باريس أو رئاسة الجمهورية لتخوين كل الفرنسيين الذين عبّروا عن ضرورة تقبل الجمهورية للإسلام، الدين الرسمي لملايين الفرنسيين.
ما يتم القيام به حاليا من تكريس لما يسمونه سخرية من النبي الكريم، يتجاوز «السخرية» إلى مس بالمقدسات، وهي مسألة تعاقب عليها أغلب دساتير هذا الكوكب الذي نعيش فيه. لا يملك أحد حق تشويه معتقد جماعة من الناس، حتى لو كانوا مجرد أقلية داخل قرية، ومحاولة تدنيس أو تشويه رمز ديني تعتبر حربا طائفية كل من يزكيها يجب أن يقدم لمحاكمة عسكرية.
يتجاوز الأمر اللعب بالنار إلى انعدام للمسؤولية ومحاولة لتصريف المشاكل الاقتصادية والأمنية ورميها في الباحة الخلفية وخلق أزمة غير موجودة أساسا وشغل الرأي العام بها.
إن فرنسا الحالية تقامر برمزية بلد بأكمله ربطته بدول إسلامية شراكات تاريخية قوية. حتى في أزمنة الحربين العالميتين، لم تقم فرنسا باستهداف رموز الدين الإسلامي ولا المساجد ودور العبادة. عاشت أجيال من الفرنسيين في المغرب في كل المدن المغربية، بل هناك مناطق مثل ميدلت وورززات وصفرو، كانت عبارة عن غابات أو أراض خصبة خارج القصبات التاريخية، وأنشأت فرنسا تجمعات سكانية بها عبارة عن منتجعات فقط لتتحول إلى مدن قائمة يقيم بها اليوم مئات آلاف المغاربة. وحتى المدن المليونية اليوم في المغرب مثل الدار البيضاء، فاس وطنجة، كلها مدن أقام بها الفرنسيون ولديهم بصمة معمارية بها لا تزال قائمة إلى اليوم، ولا يزال قدماء هذه المدن يحتفظون بذكريات وردية عن فرنسيين كانوا جيرانَ لهم، أحيوا معهم القداس وحفلات رأس السنة وأعياد الفصح وأحيوا معهم بالمقابل شهر رمضان وعيد الأضحى واحتفالات عيد المولد النبوي بل وحتى صيام يوم عاشوراء.
كانت الكنائس تقرع أجراسها أيام الآحاد، وترسل الفرنسيات قصعة الكسكس إلى المساجد في زمن «عام البون» لإطعام الفقراء. حتى أن هناك فرنسيين قاموا بربط مساجد المدن والقرى بالتيار الكهربائي من مالهم الخاص. طبعا حدث هذا قبل أن ندخل هذا العصر الحجري، حيث الحمقى يهاجمون الرسول الكريم عن طريق «الرسم» بينما المدافعون عنه يكتفون بالصراخ الصامت خلف الشاشات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى