شوف تشوف

الرأي

العقد الضائع

  جهاد بريكي

 

 

 

يحكى أن إحدى النساء الفقيرات كانت قد دعيت لحفل زفاف فخم في قصر لإحدى العائلات الغنية، فلم تجد شيئا يليق بهذه المناسبة لترتديه ولا حليا ولا جواهر تزين بها عنقها، فلجأت لجارة غنية لها تملك من الجواهر أجملها فاستعارت منها عقدا ماسيا يسلب القلوب جماله وبريقه، ووعدتها بأن تحافظ عليه وتعيده سالما بمجرد انتهاء الزفاف. وعند عودتها وقعت المصيبة، لقد اكتشفت أن العقد سقط من عنقها واختفى دون أن تلاحظ هي الأمر.. بحثت هي وزوجها وابنها في كل مكان لكن دون جدوى، فانهارت من شدة حزنها وهي التي لا تملك ثمن ماسة واحدة من العقد الثمين. فما كان منها إلا أن ذهبت وباعت منزلها الصغير لأول سمسار جاهز، ثم أخذت مال هذا البيت وتوجهت لصانع الحلي طالبة منه أن يصنع لها عقدا ماسيا شبيها بالذي فقدته. كان الحزن يفتك بأوصالها، فلقد أصبحت الآن بلا مأوى بعد أن باعت المنزل الذي كان يؤويها هي وزوجها، والذي ورثته من أبويها بعد رحيلهما، والذي يضم كل ذكرياتها وأحلامها وأسرارها. أخذت العقد الجديد وتوجهت به إلى بيت جارتها وطلبت منها أن تعذرها على تأخرها. مرت أيام عديدة، ذاقت خلالها صاحبتنا جميع أنواع التشرد والعذاب والحاجة والفقر، ثم عادت إلى محل الصائغ الذي كان قد صنع لها العقد لتسأله عما تسد به حاجياتها، فوافق على الفور وطلب منها أن تساعده في معمله وتقوم على شؤونه. وبالفعل، فقد تعلمت منه كثيرا وأصبحت تستطيع أن تفرق بين المجوهرات الحقيقية والأخرى المزورة وتمكنت من اكتساب خبرات كثيرة. مرت شهور على هذا الحال، كانت تعمل فيها بكل جهد وجد حتى حصل أمر غريب، فلقد زارت جارتها صاحبة العقد محل الصائغ لتشاهد المجوهرات الجديدة والحلي، ثم طلبت منه أن يصنع لها عقدا مزورا شبيها بعقد كان قد أعجبها. استغربت صاحبتنا من طلبها ثم سألت الصائغ عن السبب، فأخبرها أن السيدة هي زبونة دائمة عنده تأتي لتصنع مجوهرات مزورة شبيهة  بالحقيقة، فهي ليست مستعدة رغم غناها ورفاهية عيشها لدفع أثمنة باهظة من أجل عقد أو حلق. صدمت بهذا الخبر وقررت أن تذهب إلى جارتها وتسألها إن كان العقد الذي أعارته إياها من زمن بعيد حقيقيا أم نسخة فقط، لم تجد الجارة حرجا في أن تخبرها أنه كان مجرد نسخة وليس ماسا حقيقيا بل حجرا يشبهه، لكنها استغربت لهذا السؤال الذي جاء بعد زمن طويل، لتخبرها الفقيرة المسكينة بكل شيء، كيف أنها باعت بيتها الصغير وعانت التشرد هي وزوجها وابنهما وكيف طرقت جميع الأبواب من أجل العمل حتى انتهى بها المطاف عند الصائغ. صدمة الجارة كانت أكبر، فلقد قدمت العقد المعلوم هدية لإحدى قريباتها اعتقادا منها أنه عقدها المزور ليس إلا وليس حقيقيا يساوي ملايين الجنيهات.

عندما يتصرف كل من خلال ما يراه ومن داخل زاويته المغلقة المحدودة دون أن يشرح ما يحصل، ويبحث عن رأي آخر ووجهة نظر أخرى، تكون النتائج حتى هي ضيقة ومحدودة، وعندما يختار أحدنا أن يستمر في ما يراه ويعتقد، دون نقاش أو كلام أو طلب مساعدة أو رأي، يفقد أشياء ثمينة في طريقه نحو هدفه. فلو أن المرأة الفقيرة التجأت لجارتها وأخبرتها بما حصل وباستعدادها لفعل أي شيء من أجل تعويضها عن عقدها الضائع، لما احتاجت إلى بيع بيتها وذكرياتها وميراثها الوحيد. لكنها فضلت السكوت وإيجاد حل دون اللجوء إلى الطرف الآخر، فكانت الخاتمة أنها فقدت كل ما تملك. أحيانا تكون كلمة واحدة من شريك الحياة أو الأخ أو الصديق كافية لتضع حدا لكل أوجاعنا وقلقنا وشكنا، لكننا لا نطلبها ولا نبحث عنها، فنجني على أنفسنا أكثر وأكثر. الكلام والشرح والبوح والتفسير والنقاش كلها أمور تنقصنا، نحن من نحكم إغلاق صناديق حول رؤوسنا، فلا نرى سوى جزء صغير من مشهد الحياة الفسيحةالتي نعيشها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى