شوف تشوف

الرأي

«المعسول» في زمن الأنترنت

يونس جنوحي
لا تزال تداعيات موضوع عرض منزل كان يقطن به مؤسس علم الاجتماع، العالم العربي الكبير ابن خلدون، للبيع في مدينة فاس محط نقاش بين الحقوقيين والمنتسبين إلى مراكز الدراسات والنشطاء في المبادرات الفكرية والأيام الدراسية ودورات التكوين.
إذ أن رد الوزارة المعنية بالموضوع، أي وزارة الثقافة، كان واضحا بخصوص التحقق أولا من أن المنزل كان يسكنه فعلا العلامة ابن خلدون عندما أقام في المغرب قبل قرون طويلة. وهناك من اعتبر جواب الوزارة سورياليا، لكنه يبقى واقعيا أمام الحملة الكبيرة التي تعرض لها الإرث الثقافي في المغرب منذ عقود.
إذ أن هناك من يحمل اليوم في «بازارات» مراكش زرابي يدعي أمام السياح أنها تعود لفترة يوسف ابن تاشفين، ويحاول بيعها لهم.
ما نريد قوله هنا إن مآثر بأكملها تعرضت للتشويه وطالها النسيان، ولم يعد سهلا التحقق من تاريخها الكامل. إلا أن الوزارة عليها أولا أن تفتح تحقيقا في الموضوع، وتعطي للباحثين الذين تعمقوا في دراسة فكر ابن خلدون وآثاره في مكتبات المغرب، الفرصة لكي يدققوا في المخطوطات التي يمكن أن يكون فيها وصف صريح وواضح لموقع المنزل الذي كان يقيم فيه ابن خلدون ومصيره أيضا والعائلات التي سكنت فيه وتوارثته.
إذ أن علماء مغاربة مثل عبد الله كنون في طنجة والمختار السوسي في تارودانت، أنجزوا دراسات منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يمكن اعتبارها اليوم موسوعات حقيقية سجلوا فيها، في مجلدات ضخمة، أسماء العائلات المغربية التي ورثت المكتبات العلمية، ومواقع القرى التي كانت بها مدارس عتيقة وأسماء العلماء الذين تخرجوا منها، قبل قرنين. واعتمد هؤلاء العلماء على المخطوطات التي وصلت إليهم من مكتبات المساجد والمدارس العتيقة، وعلى الرواية الشفهية عن شيوخهم وعلى البحث الميداني بكل ما يعنيه من صعوبات في التنقل خلال القرن الماضي.
وأنت تطالع مثلا كتاب «المعسول» للمختار السوسي، تجد أن الرجل تفوق على زمانه وقام ببحث وجرد للأسماء والمناطق بقاماتها العلمية ومتون الأشعار التي نظم فيها هؤلاء العلماء قواعد اللغة وإنتاجهم في الأدب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
بينما نحن اليوم في عهد السرعة و«كابلات» الربط الفائق والألياف البصرية بل ومنح البحث العلمي والمنظمات الدولية والجامعات العالمية، قلما ننتج أبحاثا تتناول صيانة الذاكرة الجماعية وعملية «الأرشفة». بل وفي عهد يوجد فيه دعم من المركز السينمائي المغربي، ولا زلنا نعاني من نقص كبير ومُخجل في العمل الوثائقي الجاد الذي يتولى تسجيل الشهادات في مواضيع الذاكرة الجماعية وتركها للأجيال القادمة. وفي الوقت الذي ننتظر فيه ما يتم إنتاجه سنويا، لا نرى إلا أصحاب شركات الإنتاج الذين يغيرون سياراتهم مع كل منحة دعم من المال العام لإنجاز الأعمال السينمائية.
في كل المدن العتيقة في المغرب، والتي تحمل تاريخا مثيرا مثل الصويرة ومراكش وتارودانت وفاس ومكناس وصولا إلى طنجة التي كانت لوحدها منطقة دولية عاشت فيها جنسيات مختلفة ولجأ إليها مغامرون وفنانون، يوجد أرشيف حقيقي يتعرض للتلف في كل دقيقة تمضي دون أن يتحرك أحد للنبش في ما تبقى منه. باستثناء المبادرات التي أنقذت مثلا منزل إقامة الصحافي والتر هاريس في طنجة وحولته إلى معرض بعد أن كاد يتحول إلى ملجأ للكلاب الضالة، أو المبادرة التي رممت خلالها مقرات قنصلية تعود إلى عهد المولى سليمان في الصويرة، والمبادرة الملكية لترميم المسجد الأعظم في تارودانت، والذي يعود إلى أيام كانت المدينة عاصمة للدولة السعدية، فإن صيانة أرشيف هذا البلد يبقى فعلا أمرا مُلحا للغاية.
على الأقل، في المرة المقبلة التي يروج فيها خبر عرض منزل تاريخي للبيع، كان يقطن به مؤسس عالم الاجتماع الذي يعرفه العالم أجمع، نكون أمام مشكلة صيانة هذا الإرث بالدرجة الأولى، وليس طرح السؤال «الوجودي» حول ما إن كان المنزل فعلا إقامة سابقة لابن خلدون أم لا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى