
خالص جلبي
في سيارتي دوما كوبي (نسخة مصورة) مما كتبه الوردي حول نشأة المملكة، وهو من أكثرها توثيقا وحيادية ومتعة أهديه إلى كل مسؤول ومهتم للاطلاع.
ومنه استفدت أفكارا حول البابية والبهائية والماسونية والبريطانية الفظيعة (المس بيل) التي كانت تلعب بقبائل العراق، كما يلعب رواد المقاهي بالورق، بل وترسل لأمها في بريطانيا إنجازاتها.
ومما استفدت منه حديثه عن (قرة عين) تلك السيدة العجيبة النارية النادرة من قزوين، التي ختمت حياتها في طهران شنقا بمنديلها الحريري. كذلك عرفت منه كيف تم البطش بالحركة الوهابية على يد محمد علي باشا، الذي أرسل اثنين من أولاده، الأول (طوسون) الذي مات بالحمى في جدة (غالبا الملاريا)، ثم ابنه الثاني (إبراهيم باشا) الذي اجتاح سوريا لاحقا وكاد أن يكمل طريقه إلى الإستانة لولا البريطانيين كذا! وكانت الحملة الثانية التي وصلت الدرعية، وهناك حصلت مناقشات عجيبة بين الوهابيين وفريق من علماء الأزهر، انتهت بمذبحة عارمة لـ500 من فقهاء الوهابية، فذبحهم مثل خرفان العيد. يقول الوردي إنه بعد ثلاثة أيام من المناقشات العقيمة أن سألهم إبراهيم باشا: كم مساحة الجنة؟ قالوا: عرضها السماوات والأرض. قال: هل لأحد غيركم نصيبا فيها ولو بشجرة واحدة؟ قالوا: لا الكفرة من غيرنا مصيرهم النار. فأمر بقتلهم دفعة واحدة ودفنهم في حفرة جماعية. بالطبع هو حكم ظالم، ولكنها قصة تروى عن انسداد أبواب العقل والحوار.
وتعتبر كتابات عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) مميزة، وأول تعرفي عليه كان بواسطة الأخت (هيام ملقي)، فهي من أطلعتني على كتابه حول (منطق ابن خلدون) وعكفت عليه شهرا حتى استوعبته، كما كنت أفعل مع تقديم امتحانات الطب في الجامعة. كما جرت عادتي أيضا مع كتاب آخرين مثل مالك بن نبي، الذي عكفت على كتابه (ميلاد مجتمع)، في مصيف بقين من ضواحي دمشق.
ومن كتبه (مهزلة العقل البشري) و(خوارق اللاشعور) و(وعّاظ السلاطين)، و(شخصية الإنسان العراقي)، و(الأحلام بين العقيدة والعلم)، وأجمل أفكاره في مهزلة العقل البشري تعريفه للعقل أنه عضو للبقاء، فعلينا أن لا نثق بشخص يقول إنه يتكلم المنطق والعدل والصدق، وهو ينقل هذه الفكرة عن فيلسوف آخر، أما كتابه (خوارق اللاشعور) فيحذر القارئ من الصدمة، ولكن أكثر كتبه عمقا وتحليلا وموسوعية هو كتاب (موسوعة تاريخ العراق الحديث) الذي صدر في أربعة مجلدات، يصف فيها أوضاع العراق، منذ أيام الحكم التركي مرورا بالحكم العثماني، حتى ما قبل الأوضاع الحالية بقليل. وليته أكمله حتى عصر صدام والبعث، لأنه مات مريضا في عمّان بعمر التسعين، ولم يخرج في جنازته إلا تسعة أشخاص، خوفا من الجبار مع أن الأجل جاءه في الأردن. ومن روائع هذه الموسوعة نهايته في 152 صفحة عن (نشأة المملكة العربية السعودية) الحالية وشخصية مؤسسها الملك عبد العزيز، التي يقول إن فيه مزايا من (الكاريزمائية) و(براعة التمثيل والتظاهر) و(العطاء والإنفاق) بعقيدة اعط ما في الجيب يأت ما في الغيب، أما الشريف حسين فكان على نهج (خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود) ولم ينفعه ذلك، وأخيرا مزية (الحظ) فقد أرسل الشريف حسين طيارا أرمنيا فألقى فوق خيمته قنبلة، ولكن لم تنفجر ونجا، ولو مات لتبدل التاريخ حتى يومنا الحالي، وهذا يتحدث عن صدف عجيبة تصرف أحداث العالم وما هي بصدف. ومما يروى عن جانبه الجنسي، أنه كان يتزوج من كل قبيلة مر عليها ثم يتركها في اليوم التالي، بعد أن يعطيها وافر الذهب فلا تتزوج بعده، إلا أنه خفف في أيامه الأخيرة فكان يتزوج عذراء كل ستة أشهر.
وقرأت أنا شخصيا الكتاب، وهو أكثر من ألفي صفحة، وعلى مكث، ولمدة ستة أشهر، وأنا أمتص عصارات الكتاب بنهم وشغف. والانطباع الذي خرجت به كان منوعا، فمن جهة مناظر الطاعون والأمراض التي كانت تخلف الناس جثثا في الشوارع، ومن جهة عدم استقرار البلد بتناوب الولاة العثمانيين عليه، ومن جهة حركة التحديث. وعندما قرأت نبأ الصراع البريطاني العثماني، كان انطباعي أن قوتي الدولة العثمانية والبريطانية كانتا قريبتين من التوازن، إلى درجة أن بريطانيا هزمت على يد القوات العثمانية في معركة (كوت العمارة) كما حصل في (معركة غاليبولي= جنا قلعة)، بعد أن وضعت يدها على معظم العراق، ثم عادت واحتلت كل العراق حتى كركوك، وخرجت القوات العثمانية منها بغير رجعة وإلى الأبد.
وعندما كنت أرى القوات البريطانية وبدايات تسلح القرن، وكيف كانت تتقاتل القوات البريطانية والعثمانية من مخلفات القرن التاسع عشر من المدفعية وبدايات الطيران، كانت الحسرة تعتريني، أننا لو انتبهنا إلى أنفسنا في القرن العشرين ودخلنا العصر لقربنا من المسافة بيننا وبين خصومنا. أعني ببناء المؤسسات العلمية وقدرة التسلح وما شابه. ولكن التخيلات شيء ومجرى التاريخ شيء مختلف، فقد أصبح البون شاسعا، والحرب الأمريكية على العراق تمت بضرب ثلاثة آلاف صاروخ موجهة بأشعة الليزر، بدون أن يستطيع أحد أن يرى من أين تأتي.
ومن غرائب الأخبار في كتاب الموسوعة، قصة «المس بيل» التي ذكرناها وكانت تعمل مستشارة في السفارة البريطانية، وكانت عانسا غير متزوجة تزوجت العمل فقط، وكانت هي الحكم والفيصل في الكثير من القضايا السياسية الخطيرة.
وعندما نصب الملك فيصل على عرش العراق، حسب اقتراح تشرشل وتوصية المس بيل، طلبت بريطانيا من الناس الانتخاب، فخاف القوم وقالوا في أنفسهم إنها تريد كشف نوايانا ومعرفة من معها ومن هو ضدها، بسبب أن الناس لم يكونوا يعرفون ما هي الانتخابات. وكانت العادة أن الوالي ينصب من الباب العالي، وعلى الناس الطاعة وتقديم الضرائب.
واليوم يبدو أن ما وحدته بريطانيا من ثلاث ولايات عثمانية باسم العراق، عمدت أمريكا إلى تفكيكه إلى ثلاث ولايات، بحكم فيدرالي أو ما يشبهه. ولكن كما يقول المثل ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض.




