شوف تشوف

ثقافة وفنفسحة الصيف

جوردن بيترسون: بالقوة والخوف يحاول أتباع ما بعد الحداثة والنسوية التحكم في اللغة

ضد تيار :خطاب بيترسون الأخلاقي أهم أسباب شهرته 1

منذ سنوات وأفكار عالم النفس الكندي جوردن بيترسون تلقى انتشارا واسعا، غير أن هذه الأفكار عرفت انتشارا أوسع وتجاوبا أكبر على هامش قضية الممثل العالمي «جوني ديب» وزوجته «آمبر هيرد». ففي قضية تم تصنيفها في البداية على أنها عنف ضد المرأة، بسبب التأثير الكبير الذي مارسته حركة «أنا أيضا» أو «مي تو»، تابع الرأي العام العالمي تفاصيل شخصية كثيرة انتهت إلى انتصار الممثل العالمي، وتصنيفه، بموجب قرار المحكمة، كضحية عنف وزوجته ليست فقط عنيفة بل ومستغلة للموجة، لكونها اعتقدت أن العالم اليوم لم يعد على استعداد لتصديق رجل مثلما ليس له استعداد لتكذيب امرأة.

الضجة التي أثارتها هذه المحاكمات قوَّت معسكر المدافعين عن المفاهيم التقليدية للأسرة والرجولة والأنوثة، ووضعت، في المقابل، الحركة النسوية في ركن ضيق، لأن قضايا كثيرة معروضة على المحاكم ضد رجال، بتهم التحرش أو الإساءة ستظهر كقضايا ابتزاز، وستنبه القضاة إلى ألاعيب الحركة النسوية.

 

بيترسون المثير للجدل دوما

جوردن بيترسون عالم نفس سريري ومفكر كندي وبروفيسور علم النفس في جامعة تورنتو. اختصَّ في علم النفس اللاقياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم نفس الشخصية، مع اهتمام خاص بعلم نفس الأديان وأيديولوجيا الإيمان وتقييم وتحسين الشخصية والأداء وظيفي.

درسَ بيترسون في جامعة ألبرتا وجامعة مكغيل، وبقي في الأخيرة كزميل ما بعد الدكتوراه من عام 1991 إلى 1992 قبل الرحيل إلى جامعة هارفارد، حيث كان مساعدا ومن ثم أستاذا مشاركا في قسم علم النفس. عاد بيترسون إلى كندا في عام 1998 ليعمل كبروفيسور في جامعة تورنتو.

في عام 2017 أصدر سلسلة منَ مقاطع الفيديو على يوتيوب تختص بتحليل الديانتين اليهودية والمسيحية، وفيها يُقدم شروحات دقيقة عن سبب ارتباط هذهِ التعاليم بالحياة الإنسانية بطريقة مُباشرة، بالإضافة إلى شروحاتٍ مُرتبطة بأهم العلوم العصبية والنفسية والاجتماعية، ذلكَ بالإضافة إلى شروحاتٍ أهم الديانات الإنسانية مثل البوذية والبابلية، والحضارة المصرية، وأعمال عُلماء وفلاسفة مثل نيتشه ودوستويفسكي وكارل يونغ.

في عام 2016، أصدر بيترسون سلسلة من مقاطع فيديو على يوتيوب ينتقد فيها الصواب السياسي، ومشروع قانون الحكومة الكندية رقم سي-16، وهو «قانون لتعديل القانون الكندي لحقوق الإنسان والقانون الجنائي». أضاف هذا القانون «الهوية الجندرية» و«التعبير الجندري» كأحد أسباب التمييز المحظورة، الأمر الذي وصفه بيترسون أنه بداية دخول التعبير بالإكراه إلى القانون، على الرغم من معارضة الخبراء القانونيين له. تلقى بيترسون بعد ذلك تغطية إعلامية كبيرة مستقطبًا الدعم والنقد على حد سواء. ربط العديد من الكتاب بيترسون بمجموعة «شبكة الإنترنت المظلمة الذكية».

ربما شكّل خطاب بيترسون الأخلاقي أهم أسباب شهرته، فهو يمنح متابعيه نصائح عملية لمساعدتهم ذاتيًا؛ نصائح تمس حياتهم اليومية وتمنحهم قيمة ما. يستدعي بيترسون تقليدًا فلسفيًا يتحدث فيه عن/إلى الإنسان مباشرة، دون التعمق في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتعقيداتها. لقد شبع الناس كما يقول من خطاب الحقوق العام للغاية، ومن هنا ينطلق لشحذ المسؤولية في النفوس، مؤمنًا بانعدام التمييز بين الفوضى الذاتية والعائلية والاجتماعية.

يستند بيترسون إلى ثالوثه المكوّن من الأب والأم والابن، بحيث يمثل الأب الروح وحكمة الأسلاف والثقافة (حيث تتربع الأسطورة على القمة)، بينما تمثل الأم الأرض غير المكتشفة للطبيعة الإنسانية الخلّاقة والمُدمّرة، أما الابن فهو المتوسط بين الأب والأم: البطولة الإلهية الحاضرة في إبداع الكلمة وغريزة التدمير.

 

العدو الأول للنسوية المتطرفة

يرى بيترسون أن الحضارة الغربية تأسست على «أخلاق الفرد» الذي يمتلك قيمة جوهرية تكمن في الاعتراف بقدرته على «توليد النظام» من الفوضى. هذه القيمة مغروسة في الميثولوجيا المؤسسة للغرب، أي في التراث اليهودي-المسيحي.

يستند بيترسون إذًا إلى تصور يونغ عن «النماذج الأولى» التي تمثل نماذج فطرية عالمية للأفكار والقيم، ويمكن التعامل معها باعتبارها أجهزة نفسية تتحكم في عمل الدوافع وتشكيل الداخل الأخلاقي العميق للفرد، حيث الأسطورة على قمة هرم النماذج وبالتالي على قمة هرم الأخلاق، حيث الفضيلة أو الاستقامة أو الفاعلية تعني أن هناك احتمالية ضئيلة لانخراط الفرد في أفعال شريرة، كما تعني أيضًا سعي الإنسان لشيء متعال/مُفارق أيًا يكن.

عارض بيترسون كتيبًا إرشاديًا كنديًا مختصًا بالعلاج النفسي للأطفال والرجال، يستهدف هذا الكتيب تحجيم الثقافة الذكورية لدى الطفل أو الرجل، في حين يرى بيترسون أن الذكورية التقليدية غير مؤذية، وحجته في ذلك أن العامل المسبب لخطر السلوك الاجتماعي المنحرف أو الإجرامي لدى الأطفال يزداد في حالة عدم وجود أب.

في 2016 خاض بيترسون معركة إعلامية حول القانون الكندي الذي يحظر التمييز على أساس الهوية الجنسية. أتاح القانون حرية استعمال/استحداث ضمائر الإشارة اللغوية غير المرتبطة بالثانئية الذكورية/الأنثوية، واحترام حق الفرد في إقرار أي الضمائر (حتى المحايد منها) يمكن أن ينادى به/بها، واعتبار مخالفة ذلك إهانة/تمييز موجه ضده/ها.

في لقاء جماهيري، وجّه رئيس الوزراء جاستن ترودو إحدى الشابات بقول «People kind» بدلًا من «Man kind». يرى بيترسون أن ذلك النوع من الرقابة قمعي في جوهره، ويهدد حرية التعبير في مقتل؛ إنها برأيه العدمية التي تنكر الانقسام الطبيعي البيولوجي بين الرجل والمرأة (حيث يعتبر الفوارق طبيعية بيولوجية قبل أن تكون حتى سيكولوجية) لصالح نظرية «النوع الاجتماعي» التي تقول باختصار بتعددية الميول الجنسية وبالنشأة الاجتماعية غير البيولوجية لتلك الميول.

كما يرى بيترسون أن هنالك رغبة من أتباع ما بعد الحداثة السياسية والنسوية في التحكم في اللغة بالقوة والخوف، وليس بشكل طبيعي تنتجه اللغة ذاتها التي تتطور بمرور الوقت. ويعتقد أن «خطاب الكراهية» يجب أن يظل حرًا لأن المشكلة في رأيه تظل في من يصفه بالكراهية.

 

دعم صريح لاتفاقات «أبراهام»

قبل شهر عاد بيترسون لإثارة الجدل، بعد رسالة على قناته بموقع «يوتيوب» وجهها للمسلمين في أنحاء العالم، وتطرق فيها لمسائل الطائفية والانقسام الديني، ووصفها منتقدوه بالمتعالية والمليئة بالصور النمطية الاستشراقية. وبدا بيترسون سعيدا بقوله إن جمهورا من المسلمين يتابع نشاطاته وكتاباته، وقال في رسالته «أيها الشيعة والسنة.. الشيعة: ابحثوا عن صديق سني بالمراسلة. السنة: قوموا بالشيء نفسه».

وأشاد بيترسون بـ«اتفاقات أبراهام»، داعيا بنبرة عالية المسلمين في العالم الإسلامي للتوقف عن القتال بينهم واعتبار المسيحيين واليهود أعداءهم، وأضاف أستاذ علم النفس في جامعة تورنتو ​​«أفضل مكان للعثور على الشيطان، هو بداخلك. إذا كنت تعتقد أن العدو الحقيقي هو قلب شخص آخر، فإنك لم تفكر طويلا بما فيه الكفاية».

وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أثارت تعليقات بيترسون ردود فعل حادة من نشطاء مسلمين انتقدوا نصائحه «المتعالية والسطحية» بشأن كيفية حل المشكلات في العالم الإسلامي.

وكان بيترسون قد أجرى مؤخرا لقاءات فكرية عميقة مع مثقفين مسلمين بينهم الداعية البريطاني محمد حجاب، والداعية الأمريكي حمزة يوسف، وأثارت تلك اللقاءات المرئية ردود فعل كبيرة. حيث سبق أن اعتبر أنه لا يعتقد أن الإسلام يمكن أن يكون متوافقا مع الديمقراطية، مفترضا أنه فشل في «فصل الكنيسة عن الدولة».

واشتهر جوردان بيترسون بوصفه ناقدا لسياسات الهوية الغربية وتيارات «الصوابية السياسية» واليسار الليبرالي من موقع محافظ، واكتسبت آراؤه النقدية والداعمة للأسرة التقليدية، وكذلك أفكاره عن أهمية المحاسبة الشخصية وفضائل الأمومة والأبوة وغيرها من القضايا الاجتماعية، الكثير من الأنصار بمن في ذلك جمهور مسلم، لدرجة دعوته للحديث في أحد المؤتمرات الإسلامية في كندا، قبل التراجع عنها.

ويقول نقاد بيترسون إن تيارات اليمين الغربي تستخدم نقد الإسلام أحيانا، لاكتساب شرعية وبناء أرضية لهم وتشتيت الانتباه عن أنفسهم، عبر صرف الاتهامات التي توجه لهم من النشطاء اليساريين والليبراليين إلى العالم الإسلامي باعتباره «مثالا أكثر تطرفا».

وسبق أن انتقد بيترسون تعاطي المسلمين مع الأقليات، مستشهدا بتدمير طالبان للآثار البوذية في أفغانستان، بينما قال ناقدون له إنه تناسى أن هذه الآثار (وغيرها من الكنائس والمعابد) ظلت سليمة تحت الحكم الإسلامي لأكثر من ألف عام.

 

يهاجم من طرف الجميع

تصاعد الحروب الثقافية خلال العقد الماضي غير كل شيء بالنسبة لشخصية مثل جوردن بيترسون. هذا الهجوم الرتيب الحاد الذي أطلقته النخب الثقافية والتعليمية الغربية ضد ما يزعمون أنه عادات رجعية وقيم دنيا، حوّل نزعته المحافظة إلى معارضة متطرفة، فلم يعد محاضرًا في الخمسينات من عمره ومفسرًا غريب الأطوار. لقد أصبح الآن رجلًا ذا شعبية، حيث يقف مع الأغلبية الصامتة ضد النخب المتنورة. مما يعني أنه في أعين من يتحداهم فاشيا.

بدا الأمر وكأنه حدث بين عشية وضحاها. ففي 2016، وكجزء من قانون سي-16، قامت الحكومة الفيدرالية الكندية باستعراض إضافة الهوية الجنسية والتوجه الجنسي إلى قانون حقوق الإنسان الكندي، فاعترض جوردن بيترسون علنًا وادّعى أن هذا القانون سيجبره على استخدام ضمائر محايدة بين الجنسين وسينتهك حقه في حرية التعبير. لقد كان تدخله هذا مثيرًا للجدل ولكنه كان في الوقت المناسب تمامًا. وبسبب التضييق الذي شعر به الكثيرون عندما بدا أن تغيير العادات اليومية واللغة أتى من المؤسسات العليا، فقد تفاجأوا بهذا الصوت الواثق والداعم لهم. وكما قال جوردن بيترسون، في كتابه الجديد (ما وراء النظام )، «إن ما أقوله وأكتبه يعطي الناس الكلمات التي احتاجوها للتعبير عن ما عجزوا عن التعبير عنه»

ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، لمعت صورة جوردن بيترسون. فالملايين يشاهدون محاضراته على يوتيوب والتي جمعت بين تطوير الذات والنقد المناهض للماركسية أو ورثتها وما بعد الحداثة والنسوية. كان أداؤه الواثق والحازم في المناظرات التلفزيونية والإذاعية مقنعا جدا. والمذهل أن مبيعات كتابه الثاني (12 قاعدة للحياة) الذي نُشر في يناير 2018 وصلت إلى خمسة ملايين نسخة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى