الرأي

لماذا تشيخ المجتمعات الصناعية؟

لقد فكرت طويلا في الاستقرار في المجتمع الألماني، بعد أن خسرت وطني الذي عصفت به الأحداث، والتهمته يد الانقلابات العسكرية، ودخل في نفق مظلم، ولكن كلمات أيها الأجنبي غادر أرضنا (Auslaender RAUS) كنا نقرؤها في كل مكان حين هاجرت في عام 1975م إلى ألمانيا بعد أن يأست من تحصيل الاختصاص في بلدي. ولم يخطر في بالي أنني سوف أغادر وطني بدون عودة وأترك ديار البعث إلى يوم يبعثون.
ومن وضع قدمه في الهجرة، يجب أن يضع في حسابه أنه قد يبقى غريبا عن وطنه حتى القبر، ولو عاد له لشعر بالغربة فيه وبرودة عظامه، وهو ما حصل معي حين رأيت بيت جدي وقد انقض بنيانه وأنقص من أطرافه، ولم تعد شجرة التوت في الحوش (فناء الدار) موجودة؟
وهكذا كانت الخلاصة التي انتهينا بها عجيبة فلم يعد الشرق يعجبنا ولا الغرب يسعدنا فنحن نفسيا في الأرض التي لا اسم لها!!
وهذا الشعور يراودني الآن من جهتين، الانخلاع من الإرث القومي إلى الأفق الإنساني، وأن الأرض لله وأننا عباد الله، وأن الأرض تتغير من اختلاط الثقافات وامتزاج الأديان والعباد والعملات والزيجات.
وكنت أظن حين وضعت قدمي في أرض الجرمان، أنني سوف أصبح واحدا منهم بثلاثة أشهر أو سنة وسنتين وثلاث؟!
ولكن تبين لي بكل أسف أن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن المرء يخترق حاجز المسافات الجغرافية في خمس ساعات، من بيروت إلى نورنبيرج كما حصل معي. ويخترق حاجز اللغة في ثلاثة أشهر فينطق ما يمشِّي به يومياته من طعام وشراب ومطعم وملبس وأجرة وعناوين شوارع، ولكنه حتى يخترق ويندمج في الثقافة الألمانية قد لايكفيه نصف قرن وما هو ببالغه.
لقد عشت بينهم تسع سنين عددا، كنت مطوقا بالبرد والغربة ولم أشعر يوما أنها ستكون مستقرا ومستودا.
زاوية وصخرة، وعلى كل جدار، في رق منشور وكتاب مسطور، جعلتني أحك رأسي طويلا قبل التفكير في هذه الأرض، التي أخرجت القرن النازي يوما ومعسكرات الاعتقال، ومن أرضها اشتعلت الحروب القومية والدينية والعالمية، وتركت بصماتها على الضمير حوفا وكراهية للأجنبي والآخر المختلف؟
وحين قرأت في مجلة در شبيجل تحت بحث (نقاش Debate) خبرا مؤلما حافلا بالتحدي، ينتظر المسلمين في ألمانيا، إذا أظلمت الدنيا واحلولكت الأيام وبدأت المذابح وحفلات التطهير العرقي.
جاء هذا الخبر في صدد كتاب بعنوان (ألمانيا تلغي نفسها Deutschland schaft sich ab?) لرجل ألماني عنصري يعمل في البنك الألماني اسمه غريب (Thilo Sarrazin) لا أعرف رنينه من الأسماء الألمانية الشائعة (شميدت وكول وهوفمان) هو تيلو ساراتسين (ولفظ بشكل شائع في الميديا مترجما إلى اللغة الإنجليزية باسم سارازين فلنعتمده اذن في المقالة. وقد حقق طارق الوزير وهو رجل من أم ألمانية وأب يمني ويمثل جبهة حزب الخضر في مقاطعة هيسن في اسم هذا المخلوق، ليعرف أن خلفيته ليست ألمانية، بل من الفرنسيين الهوجنوت الفارين بدينهم أيام المذابح الدينية، كما فعل كثير من مسلمي الشرق الأوسط في أيامنا؟؟ وهنا التناقض الموحش.
يقول زراسين مهولا ومحذرا في كتابه الجديد، أن ألمانيا سوف تنتهي بحدين من خطرين، تشيخ المجتمع الألماني الذي لن يعوض بألمان، بل بأتراك متخلفين ـ بزعمه ـ وسخين ناقصي الأهلية والثقافة يرفضون الاندماج في المجتمع الألماني، والذوبان في بطن الحوت الجرماني، وفي عام 2050 م ستصبح ألمانيا جمهورية إسلامية بتعداد 7 مليون تركي يصلون للكعبة خمسا، ويذبحون الخرفان في عيد الأضحى في حوض الاستحمام المنزلي.
وفي عام 2100م سيكون عدد الأتراك لوحدهم غير العرب والكرد والعجم والغجر والبربر 35 مليونا، فلنقرأ الفاتحة على ألمانيا، ولنوزع النعوة على التراث التيتوني الجرماني، فقد انقلب العالم وتحولت الأرض إلى إسلامية، يؤذن فيها المؤذن خمس مرات في اليوم، وترتفع المآذن بالأذكار في رمضان؟ ويعيش فيها نساء مبرقعات محجبات منقبات كأنهن أشباح دراكولا الليلي؟ ويصبح حفيدي غريبا في أرض أجداده.
إنني لا أريد هذا المصير لأحفادي والويل لكم أيها الألمان إذا لم تنتبهوا وتتيقظوا إلى هذا الخطر الداهم وهذا الشر المستطير.
إنه خبر حزين أليس كذلك، وكله من امتدادات ضرب نيويورك، كائنا من كان ضارب طبله ومفرقع صوته في التاريخ.
إن المسلمين اليوم في ألمانيا خاصة، وفي أوربا عامة، في محنة عارمة وأيام سوداء قادمة، وهناك الكثير الكثير ممن يصفق لزراسين، أنه تجرأ فنطق، ولا يستبعد أن ينفصل عن حزبه الاشتراكي، ويؤسس لنفسه حزبا خاصا وعلما خاصا وهتافات خاصة ودولة ضمن الدولة من الأحقاد والكراهيات، والتصميم للمستقبل على تطهير الأرض الجرمانية من العروق والأجناس النجسة؟؟
إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا…
ولكن لماذا يشيخ المجتمع الألماني؟ أو المجتمعات الصناعية عموما؟ اسمعوا القصة التالية؟
سألت زميلي الألماني راينهارد حيث كنا نعمل سوية في مشفى مارين في مدينة جيلزكيرشن ـ بور في منطقة الرور الصناعية في ألمانيا، في ثمانينات القرن العشرين، حيث كنت أتدرب على جراحة الأوعية الدموية: عفوا هل أنت متزوج؟ قال نعم؟ عفوا من جديد هل عندك أطفال آسف إن كان تدخلا مني في أمورك الشخصية؟ لا.. لا.. أبدا. أجاب راينهارد ليس عندي الأولاد وأستطيع الإنجاب وزوجتي مخصبة ولكن ليس بنيتنا أن نستولد الأطفال. ولماذا عفوا ما هي وجهة نظرك؟ سألت باهتمام من جديد؟ وكنا في ساعة رحمانية مسترخين من الحوادث والعمليات، والرجل كان واضحا دقيقا يتابع اختصاصه من فرع لفرع، وكان في نيته أن يتمرن لربما على عشرة حقول طبية، وربما بعد الأوعية وهي سنتان أن يذهب لمدينة ركلنكهاوزن فيتمرن على مشاكل المستقيم والكولونات وهي أكثر من أمطار الشمال؟ وإذا كان كل اختصاص يتطلب سنتين فقد كان مخططه أن يمضي عشرين سنة في رحلته الماراتونية؟ وهو رجل نادر رأيته في شعوب الشمال؟ وأمام سؤالي الأخير تأملني جيدا وقال ولماذا الأولاد؟ وأي شيء سيفيدوني؟ هل سينفعوني في كبري؟ ويسندوني في شيخوختي وضعفي وسقمي ومرضي؟ جلَّ ما سيفعلونه ـ إن أحسنوا صنعا ورأفوا بحالتي ـ أن يرموني في بيت مأوى للعجزة؟ وجوابه هذا يحمل أزمة المجتمع الألماني وتناقص الأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى