حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

موجة حارة

 

 

لا شيء يُوحِّد المغاربة في الصيف أكثر من حلم العطلة، ذاك الحلم البسيط الذي يتحول إلى كابوس جماعي على شاطئ مدينة ساحلية بعيدة، أو شقة مفروشة في أحياء منسية تعج بجيوش من سراق الزيت. الصيف في المغرب ليس مجرد فصل من فصول السنة، بل هو موسم وطني للهروب الجماعي من الهموم، والاختناق في الزحام، والانفجار في وجه النادل، وصراع البقاء في «دويرة» بثلاثين شخصا ومروحة يتيمة.

من طنجة إلى الداخلة، يبدأ المغاربة طقوسهم الصيفية كما تبدأ الحرب، أولا بالإعداد النفسي، ثم تجهيز المؤونة، وأخيرا إعلان النفير العام. الأب يبيع كليته ليحجز 10 ليال في «شقة مفروشة مجهولة الهوية»، أما الأم فتعبئ خمس قنينات ماء، و25 سندويتش كاشير، وطفاية حريق، وحزاما ناسفا من الشدة، تحسبا لأي طارئ من طفل يضيع في زحام الكورنيش، إلى زوج يقدم نفسه للمصطافات الأقل من عشرين سنة كشاب عازب مهاجر في فرنسا يبحث عن زوجة المستقبل. أما الأطفال، فمستعدون لركوب أي وسيلة نقل من أجل البحر، سيارة، «طوبيس»، أو حتى قارب مخصص للهجرة السرية.

في عز هذا الصيف الساخن، لا يعلو فوق صوت الغلاء إلا صوت زبون يتشاجر مع صاحب «شواية سمك»، لأن الأخير طلب 700 درهم مقابل صحن فيه 3 سردينات محروقات وبصلة حزينة. الأسعار ترتفع، والتجار يبتسمون بثقة مافيوزية، كأن لسان حالهم يقول: «لي معندوش يمشي يتشمس فالسطح».

تخيل معي مشهدا حقيقيا لعائلة من 7 أفراد، تطلب طاجين سمك في أحد مطاعم الشواطئ. بعد نصف ساعة، يُقدَّم لهم الطاجين، فيكتشفون أن كمية السمك لا تكفي شخصا واحدا. وعندما يحتجون، يخبرهم النادل أن طبسيل العدس المرافق للطاجين ليس ضمن «المنيو»، وأن عليهم دفع خمسين درهما إضافية مقابل جوج عدسات تسبحان في نهر من المرق.

وفي الأسواق، يتحول الجشع إلى مسرحية موسمية. «البينيي» العادي الذي كان ثمنه لا يتجاوز درهمين، أصبح يباع بـ«النفخة» بعشرة دراهم للقطعة. شرائح البطيخ؟ توزن بالذهب. الشمسيات؟ للإيجار فقط، وتدفع تأمينا على حياة الشمس نفسها.

لكن الأسعار ليست وحدها من يسرق بهجة الصيف. الظاهرة الأعظم والأخطر هي «هركاوة»، وهي ليست فرقة فولكلورية كما تعتقد، بل حالة عقلية وسلوكية انتشرت انتشار النار في مدننا وأحيائنا وشواطئنا. الهركاوي كائن صيفي فوضوي، يتميز بقدرات هائلة على احتلال مساحة 40 مترا مربعا من الرمل بـ5 زرابي، ومظلة تشبه خيمة القذافي، وكرسي بلاستيكي مُحطم يُستعمل للزينة فقط.

الهركاوي لا يأتي للبحر من أجل السباحة، بل من أجل بث الرعب في المكان. موسيقى شعبية تنبعث من «باف» بحجم ثلاجة، دخان «الشيشة» يعكر الأجواء، وصرخات أطفاله تذكرنا بمشهد هروب جماعي من معركة. وإذا تجرأت ووضعت مظلتك قريبة من منطقته «السيادية»، ستحصل على نظرة تهديد من عينه اليمنى، ووعيد من زوجته التي تحمل طفلين وصحن كسكس في الوقت نفسه.

الهركاوي يعتقد أن الشاطئ ملك أجداده، وأنه من حقه أن يقلق راحة الآخرين، لأنه تعب طوال السنة. فيقضي اليوم كاملا وهو يصيح، يلعب الورق، يطارد أطفاله العراة، ثم في النهاية يترك خلفه آثار حضارته العريقة، علب سردين فارغة، حفاضات مستعملة، ومهارات فنية في رسم العضو الذكري على الرمال.

العطلة الصيفية في المغرب هي عملية خداع جماعية. الكل يدّعي الاستمتاع، بينما الحقيقة أن الجميع منهك، مفلس، ومحبط. من لم يُلدغ من ثمن كراء شقة بمرحاض مشترك، لُدغ من أخلاق الجيران. ومن لم يتسمم من السردين، تسمم من تعامل النادل الذي يشتم الزبائن، بينما يكتب على ظهر قميصه «مرحبا بكم».

النقل الصيفي قصة أخرى، حيث تتحول سيارات «الطاكسي الكبير» إلى سفن نوح بشرية. وإذا كنت من المتهورين الذين قرروا السفر عبر القطار، فاعلم أنك ستقضي الرحلة واقفا بجانب المرحاض، مستمعا إلى بكاء رضيع، وشجار زوجين، وتنهيدة موظف فقد كرامته في المحطة السابقة.

في النهاية، يبقى صيف المغرب هو ذاك الموسم الذي يبدأ بالأمل وينتهي بالصدمة. نخطط للراحة، فننتهي مرضى. نحلم بالبحر، فنغرق في الفوضى. نريد الابتعاد عن الضغط، فنقع في أحضان «الهركاوي»، الذي يعتقد أن حريته تعني أن يبصق على النظام ويتبول على الذوق العام ويدفن قشور الدلاح في رمال شاطئ، ينتظر الفاتح من شتنبر بفارغ الصبر.

لكن رغم كل هذا، سيعود المغاربة، صيف العام المقبل، إلى نفس الشواطئ، ونفس الشقق، ونفس المآسي. لأن المغاربة، ببساطة، لا يسافرون ليستمتعوا، بل يسافرون ليقولوا: «مشينا فالصيف!».. ثم يعودون ليحكوا عن بشاعة التجربة بفخر، وينشروا صورهم بجانب البحر مع تعليق: «أحسن عطلة فحياتي»، بينما خلف الكاميرا، طفل يصرخ، وزوجة تبكي، وشواية تحترق، وأقساط «كريدي» تتربص برب الأسرة في الزاوية.

إنه صيف المغاربة.. حيث «الراحة» مجرد كذبة موسمية، والجشع والانتهازية أسلوب حياة.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى