
يونس جنوحي
باعتبار أن طنجة بوابة إفريقية على أوروبا، فإن وجود مرشحين للهجرة قادمين من دول جنوب الصحراء بين شوارع هذه المدينة، يبقى طقسا من طقوس هجرتهم الكبيرة إلى الضفة الأخرى، وهناك منهم من يختارون البقاء بين المغاربة ويحاولون مزاولة أنشطة تجارية والاستقرار.
أحدهم خاطب، أول أمس، سائق سيارة متهور في ضوء الإشارة، عندما سأله السائق: «ماذا تفعل في المغرب على كل حال؟ مضيفا بفرنسية متكسرة: «لدينا ما يكفي من المشاكل». وهنا رد عليه المهاجر المغلوب على أمره قائلا: «أوربا تبدأ من هنا سيدي.. تبدأ من هنا».
والحقيقة أن علاقة مدينة طنجة تحديدا بالقارة الأوربية ملتبسة فعلا، وجزء مهم من تاريخها سقط، لا ندري إن كان قد سقط سهوا أم أنه غُيب بفعل فاعل. كما أنها يمكن أن تعتبر تاريخيا أقرب إلى البريطانيين أكثر مما هي قريبة جغرافيا من الإسبان.
فقد أهديت هذه المدينة إلى الإنجليز بمناسبة زفاف الملك شارلز الثاني من أميرة برتغالية اسمها «كاثرين براغانزا»! إذ إن الإنجليز لم يصلوا في البداية إلى طنجة وإنما سبقهم إليها البرتغاليون الذين حاولوا استعمارها بعد حملات 1471 العسكرية وسيطروا عليها عسكريا. ثم بعد 200 سنة أهدوها لبريطانيا.
إذ إن الملك شارلز الثاني عندما تزوج الأميرة البرتغالية، فكر البرتغاليون في هدية تليق بمقام ملك بريطانيا العظيم، فلم يجدوا أمامهم سوى طنجة لكي تُقدم هدية للملك، ويأتي إليها البريطانيون بحرا للاحتفال ببوابة القارة الإفريقية التي أصبحت مفاتيحها في جيبهم.
ظن البريطانيون أن المدينة سوف تصبح ملكا لهم إلى الأبد. وهكذا لم يفكروا أبدا في تعزيز الحماية البحرية أو إخلائها من المغاربة. حتى أنهم لم يفكروا في تسييرها على طريقة تسييرهم لبقية مستعمراتهم حول العالم، خصوصا في آسيا. بل أبقوا عليها منتجعا للاستجمام.
وبعد سنوات فقط على بدء سيطرة الإنجليز على طنجة، هجم عليهم المولى إسماعيل قادما من مكناس، وطردهم من طنجة شر طردة، وأعلن استعادتها من قبضة الأوربيين وتسلمها ممثلو المخزن وخليفة السلطان.
لكن الإغراء الذي تسببت فيه طنجة لبعض الأثرياء البريطانيين جعلهم يقررون العودة إليها ولو متخفين، قبل أن يعرف العالم تطورات أخرى ويقرر الإنجليز العودة إلى طنجة من باب التجارة، ويختاروا مع نهاية عهد الحسن الأول، بعد قرابة قرنين على رحيل المولى إسماعيل، أن يقيموا منازلهم ويستقروا نهائيا في طنجة لرعاية مشاريعهم التجارية.
وهو ما يفسر غياب آثار بريطانية تعود إلى عهد ما قبل استعادة المولى إسماعيل للمدينة، حيث إن جل الآثار البريطانية التي لا تزال قائمة إلى اليوم، تعود لفترة الحماية الدولية للمدينة.
يصعب فعلا فهم طريقة تفكير البرتغاليين الذين قاموا بتسليم مدينة بأكملها بكل تاريخها وحضارتها التي تعود للفترة الفينيقية والرومانية، إلى دولة أخرى هدية زفاف كما لو أن الأمر يتعلق بـ«سربيس» للقهوة.
ونحن اليوم محظوظون لأن الآثار الرومانية والإسلامية لم يتم تدميرها على يد المستعمرين الذين تعاقبوا على هذه المدينة واعتبروها دائما بوابة للقارة الأوربية أكثر مما اعتبروها بوابة إفريقية.
أما اليوم فقد تغيرت أمور كثيرة، بسبب قوانين الهجرة، وهناك أعضاء في البرلمان الأوروبي يودون لو أن مدينة طنجة تُنقل إلى نواح أخرى بعيدة عن الجزيرة الخضراء. لأن كل الذين ينظرون إلى طنجة هذه الأيام يرددون مع صاحبنا: «أوروبا تبدأ من هنا». بينما واقع الحال يريد لها أن تنتهي هناك أو قبله بقليل.



