
د. خالد فتحي
حين يروى الخطاب السياسي بالدم، لا يبقى صاحبه، وقد قضي نحبه اغتيالا، مجرد ناشط ؛ بل يتحول إلى رمز…، إلى أيقونة، تتجاوز ذاتها، فالرصاصة
التي ترديه، تحوله للتو إلى “شهيد” في عيون المريدين والأنصار والمعجبين. هكذا تتحول بعض الحوادث الفردية المتسمة بالعنف والمضمخة بالدم، إلى علامات فارقة ومحطات مفصلية في المسار السياسي لبعض الشعوب، خصوصا حين تحدث في أتون ظروف عصيبة خاصة، تُوشك أن تفقد فيها قدرتها على إدارة الاختلاف بالحوار.
هذا بالضبط ما وقع في الولايات المتحدة منذ يومين حين اغتيل الشاب المحافظ تشارلي كيرك، برصاصة استقرت في عنقه، بينما كان يخاطب جمهورًا جامعيًا حاشدا عن رفضه الشديد لأفكار “اليسار التقدمي” وثقافة “الووك” التي باتت – في أعين الكثيرين – تمثل تهديدًا مباشرًا للنموذج الأمريكي التقليدي.
في ظاهر الأمر، ورغم تأثره الشديد، وهو ينعي القتيل؛ بل وينكس الأعلام حدادا عليه، يبدو الرئيس دونالد ترامب بمثابة المستفيد الأول من هذه الحادثة. فهذا الشاب لم يكن مجرد مناصر له، بل كان يجسّد، في مظهره وخطابه وسلوكه، الصورة النموذجية للمواطن الذي يخاطبه ترامب في حملاته: شاب أبيض البشرة، كاثوليكي محافظ، متدين، رب أسرة متزوج من امرأة، مناهض للنسوية الراديكالية وللمثليّة والجندرية، ومعارض بشراسة لكل مظاهر “التقدّم الثقافي” الليبرالي الذي ينظر إليه في معسكره على أنه تخريب لما تبقى من “روح أمريكا”.
لكن السؤال الذي يتجاوز من قتل؟ ومن يستفيد؟، هو: إلى أي مدى أصبحت الولايات المتحدة قابلة للاشتعال من الداخل؟ وهل ما نشهده هو مجرّد عنف سياسي ظرفي، أم أننا فعلاً أمام مشهد يميل تدريجيًا إلى سيناريوهات الحرب الأهلية الناعمة، أو حتى العنيفة لاحقًا؟
المشهد الأمريكي اليوم ليس مجرد نزاع سياسي بين يمين ويسار، بل هو تجلٍّ لأزمة هوية كبرى:
هل أمريكا هي الدولة التي أنشأها “الآباء المؤسسون” بقيمهم البروتستانتية البيضاء المحافظة، كما يراها تيار “أمريكا أولًا”؟
أم أنها كيان مفتوح متغير باستمرار، تتسع هويته لتشمل التنوع العرقي والديني والجندري والثقافي بلا قيد ولا شرط، كما يريدها تيار “الووك”؟
هذه الأزمة ليست جديدة، لكنها تأخذ اليوم طابعًا أكثر راديكالية بسبب التفكك الواضح للمرجعيات المشتركة الجامعة. لم يعد هناك إجماع على معنى “القيم الأمريكية”، ولا حتى على فهم مشترك للدستور، أو الحرية، أو المواطنة.
أن تقع عملية اغتيال سياسي داخل حرم جامعي ليس أمرًا عابرًا.
الجامعات، تاريخيًا، كانت فضاءً للتعدد، ومختبرا للأفكار، ومنطقة رمادية تتسع لكل الحساسيات، ويتعايش فيها المختلفون. لكنها اليوم تحولت إلى ساحات مغلقة، تمارس فيها رقابة فكرية مشددة باسم “السلامة النفسية” و”احترام الهويات”، ونتيجة لذلك، لم تعد الجامعات الأمريكية تحتمل الآراء المحافظة – لا في المدرجات، ولا في المنصات العامة.
وفي المقابل، فإن بعض المنابر اليمينية تحولت إلى معاقل تعبئة وتحريض مضاد، تكرس خطاب الضحية، وتقدس “شهداء القيم التقليدية”. وتعلن صراحة رفضها لهذا الانفتاح المفرط الذي غرقت فيه أمريكا.
ما يحدث في أمريكا هو إغلاق متبادل للآذان والعقول، وتحول السجال الأكاديمي والسياسي إلى حلبة تصفية حسابات أيديولوجية.
دونالد ترامب، فاعل محوري في هذا الصراع المحتدم، هو أكثر من كونه شخصية سياسية جدلية، هو ظاهرة ثقافية تلخص التمزق الأمريكي الداخلي.
رغم أنه صار رئيسا لكل الأمريكيين وللمرة الثانية، يدل نهجه السياسي أنه لا يسعى إلى المصالحة، بل يؤمن بأن الصراع ضرورة لاستعادة ما يسميه بـ”روح الأمة”.
خطابه ليس عقلانيا بقدر ما هو تعبوي، يعتمد على التكرار، العاطفة، وتغذية الشعور بالظلم.
إنه لا يتورع عن تقديم نفسه كـ”ضحية منظومة فاسدة”، ويحشد جمهورا يشعر أنه خدع لعقود باسم التعددية والانفتاح واحترام الاقليات بمختلف أنواعها.
وعليه، فإن حادثة اغتيال أحد أنصاره تمثل فرصة لتغذية هذا الخطاب، وتقوية السردية، وتحويل مقتله إلى “دمٍ طاهر يسقي جذور الأمة”، وفقًا للغة بدأت فعلا تظهر في بعض وسائل الإعلام اليمينية المتشددة.
ترامب نفسه ينظر لنفسه، بل وينظر له أنصاره ؛ في هذا السياق، بصفته المخلص الذي نجا من الاغتيال بمعجزة ربانية مرتين خلال حملته الأخيرة. إنه ينظر لنفسه ك”شهيد” لازال يمشي على الأرض. بل إن أنصاره ليعتبرونه كذلك.
نعود ونقول: أن هناك سرديّتان متنافرتان بأمريكا: إحداهما ترى البلاد كدولة مسيحية بيضاء محافظة، والأخرى تراها كيانا تقدميا متعدد الهويات، وخلف هذا الصراع الهوياتي، يكمن في الحقيقة غضب اقتصادي واجتماعي : الطبقة العاملة التي يفترض أن اليسار هو الأقرب لقضاياها، تضررت كثيرا من العولمة، وصارت تشعر بالغربة في وطنها، وتنظر للثقافة الووك كترف ليس إلا انغمست فيه النخب الديمقراطية التي لم تعد تلامس معاناتها.هذا الشعور الفادح بالإهمال والخسارة يدفعها لدعم شخصيات مثل ترامب تعدها بإعادة أمجاد الماضي
وهكذا، من المحكمة العليا، إلى الكونغرس إلى الإعلام، إلى الجامعة، تتآكل الثقة الشعبية بالمؤسسات، ويحل محلها الاعتماد على شبكات حزبية ضيقة.
هذه العوامل، في أي دولة أخرى، كافية لاندلاع صراع أهلي. لكن في الحالة الأمريكية، لا تزال المؤسسات تقاوم، ولا يزال النظام الديمقراطي، رغم هشاشته، يعمل.
قد لا تكون الحرب الأهلية على الأبواب، لكن الولايات المتحدة بلا شك تسير في حقل ألغام اجتماعي وثقافي وسياسي.
استمرار التصعيد، وغياب الخطاب العاقل، واستثمار الدماء سياسيا، كلها عناصر تهدد بتحويل الاختلاف الديمقراطي إلى احتراب داخلي مفتوح.
إذ مع كل حدث عنف، يزداد الشرخ عمقا، وتتهدم جسور إضافية وفي مثل هذه اللحظات، لا يطلب من الساسة أن يكونوا منتصرين، بل أن يكونوا عقلاء.
ففي زمن الجنون، يصبح مجرد التعقل ثورة، ويغدو الاعتدال موقفًا راديكاليا.
ومالم تسعف الأقدار بمن يطفئ النيران، فالحريق قادم لامحالة.





