حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

التاريخ المنسي لمنشورات وإشهارات استثنائية

هكذا كانت تعمل آلة الدعاية في المغرب

 

يونس جنوحي

 

عندما ظهرت المنشورات، كانت الصحف المكتوبة باللغة العربية تمثل آلة الدعاية الأولى في المغرب. مؤثرة، قوية، وشبه مقدسة.. وتستلهم جل رسائلها من الشرق. الذين كانوا يكتبون فيها لم يكونوا مجرد متحمسين عاديين، بل كانوا من كبار المثقفين والعلماء. والنتيجة أن الإدارة الفرنسية قررت نفيهم وعزلهم عن محيطهم، حتى لا يساهموا في الآلة الدعائية المغربية المناهضة لفرنسا..

بعد ذلك ظهرت منشورات أخرى خلدت أحداثا تاريخية مهمة، مثل الإنزال الأمريكي في السواحل المغربية، وغيرها من الأحداث التي صنعت تاريخ المغرب المستقل.

 

+++++++++++++++++++++++++++

 

شركات المشروبات والسجائر الأجنبية تضررت من حملات دعاية مغربية

المغاربة الذين عاشوا أجواء سنة 1948، لا يزالون يتذكرون كيف أن مقالا منسوخا من صحيفة مصرية تضمن معلومات وقعها عالم من علماء الأزهر، تؤكد احتواء المشروبات الغازية «الكولا» على مواد مستخلصة من دم الخنزير. هذه المعلومة وحدها كانت كافية لجعل الناس ينخرطون في حملة مقاطعة، كبدت شركة المشروبات الغازية خسائر فادحة. حتى أن الشركة تكبدت خسائر أكبر في مدينة فاس، العاصمة الروحية التي تضم جامع القرويين، ومعقل العلماء المغاربة الذين يشكلون تكتلا كبيرا ويمارسون صلاحيات واسعة من خلال الدروس المسائية التي يُلقونها داخل الجامع.

لم يفهم المسؤولون الأمريكيون في البداية السبب وراء المقاطعة الكبرى التي تعرض لها المشروب في مدينة فاس تحديدا، وجاء مسؤول الشركة إلى فاس، ووقف بنفسه على حجم الخسائر، وطالع صفوف صناديق المشروب الغازي، أمام الدكاكين والمقاهي.

هذه الواقعة ذكرتها الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» في مذكراتها عن تجربة العيش في مدينة فاس، ثم الانتقال إلى العمل الصحافي والإذاعي في الرباط، في الفترة ما بين سنتي 1950 و1953، وسوف نتطرق في هذا الملف إلى ما كتبته في مذكراتها عن «الدعاية». هذه الصحافية ذكرت أن مسؤول الشركة الأمريكية أرسل أساسا لكي يبحث عن حل للمأزق، وتوصل بعد البحث إلى أن المقال الصادر في مصر هو سبب المقاطعة الكبيرة. أما كيف وصل المقال إلى المغرب، فقد أحضره أحد علماء القرويين معه من مصر التي زارها في طريق عودته من الحج، وأعجب بمحتوى المقال ونسخه، وسرعان ما انتشر بين المغاربة، خصوصا في فاس.. تحكي الصحافية مارفين هاو، كيف أن هذا المسؤول عن التسويق اهتدى إلى حيلة ذكية، واستغل صورة لشخصيات مغربية مرموقة تحظى بتقدير كبير لدى المغاربة، وهم يشربون هذه المشروبات الغازية، ونسخ منها أعدادا مهمة، وتأكد من توزيعها في أرجاء فاس، ليرى الناس بأعينهم كيف أن أعيان البلاد والشخصيات المحترمة تستهلك المشروب الغازي، وبالتالي تُكذب «الدعاية» التي تقول باحتوائه على دماء الخنزير.. ونجحت الخطة بالفعل، وعاد استهلاك المشروبات الغازية إلى سابق عهده.

شركات السجائر أيضا «عانت» من حملات الدعاية التي مارسها الوطنيون. وهذه المرة، لم يكن الوطنيون يحتاجون مقالا علميا يكشف أضرار التدخين، بقدر ما كانوا يحتاجون فتوى من العلماء -علماء القرويين تحديدا- الذين أفتوا بتحريم التدخين، وعمل الوطنيون على تعميم منشورات دعائية تدعو المغاربة إلى عدم استهلاك التبغ، الذي تنتجه شركات التبغ الفرنسية.

ولم يتوقف الوطنيون عند هذا الحد، بل وصل الأمر حد «الوعيد»، وتهديد باعة السجائر بالعقاب. وسُجلت فعلا وقائع اغتيال باعة للسجائر، على يد شباب من الوطنيين، وهو ما سُجل في أرشيف الشرطة الفرنسية في الدار البيضاء والرباط. إذ سجلت أحداث إطلاق النار على مغاربة كانوا يبيعون السجائر في الشارع العام، ولم يفهم البوليس الفرنسي في البداية سبب استهداف هؤلاء الباعة، قبل أن يتضح أن هناك منشورات توعدت كل من يبيع السجائر للمغاربة، بالانتقام.

 

 

أولى الحملات المغربية.. تسجيل الأبناء في المدارس، التلقيح، وتسليم السلاح

أولى الحملات المغربية بعد الاستقلال، صارت حكومية، رغم استمرار حملات أخرى للوطنيين، تمثلت في ما كان يُنشر في الصحف المغربية بعد 1956.

كانت هناك منشورات تطالب بجلاء القوات الأمريكية والفرنسية من المغرب وتسليم القواعد العسكرية إلى الحكومة المغربية، وهي المطالب التي تنامت أكثر بعد 1956.

لكن أولى الحملات الدعائية الرسمية في المغرب، والتي أشرفت عليها وزارة الأنباء في عهد الملك الراحل محمد الخامس، كانت في الحقيقة تتعلق بمحو الأمية، وهي الحملة التي أشرف الملك بنفسه على إطلاقها، وحدد حتى شكل ومضمون الملصقات والمنشورات التي دعت المغاربة من كل الفئات إلى محاربة الأمية.

بعد ذلك ظهرت حملات توعية، مثل الحملة الكبرى للتلقيح، والتي أطلقتها وزارة الصحة في عهد أول حكومة مغربية، وهي حكومة البكاي الأولى التي بدأت تشتغل منذ دجنبر 1955.

وهذه الحملة كان الهدف منها تلقيح الأطفال، قبل التحاقهم بالمدارس، ثم الرضع حديثي الولادة، وزرع ثقافة التلقيح لدى الأسر، وتشجيع البالغين على التلقيح الذي يلائم الفئات العمرية المختلفة.

كانت هذه الحملة تحديا دعائيا كبيرا أمام الحكومة. إذ لم يكن سهلا في ذلك السياق الانتقالي داخل البلاد، إقناع الناس بجدوى التلقيح، للقضاء على أوبئة، مثل الحصبة وحمى الأطفال، والأمراض الجلدية والسل.

أما تسليم سلاح قدماء المقاومة وجيش التحرير، فقد كان يمثل أحد أكبر التحديات أمام الحكومات المغربية إلى حدود منتصف الستينيات، إن لم يكن التحدي الأكبر على الإطلاق.

بعد مسلسل جمع سلاح أغلب مكونات المقاومة منذ 1956، بدأت حملة أخرى سنة 1959 على أمواج الراديو عندما خاطب عبد الله إبراهيم، الوزير الأول وقتها، المغاربة وحثهم على ضرورة تسليم السلاح إلى الدولة، مُذكرا أن ظرفية حمل المغاربة للسلاح لم تعد قائمة، وأن البلد المستقل لا مكان فيه للسلاح في الشارع العام وعلى خاصرة المواطنين.

سنة 1960 وُزعت المناشير في إطار حملة دعائية لاعتقال الرافضين لتسليم سلاح المقاومة، إذ إن هؤلاء كانوا يرون أن الاستمرار في الكفاح المسلح لا يزال ضروريا، حتى بعد الاستقلال. وأشهرهم خلية شيخ العرب الذي بقي مبحوثا عنه في بداية الستينيات، ووُزعت منشورات تضع مكافآت مالية لكل من يدل على مكانه، أو مكان اختباء من كانوا معه في الخلية.

هذه الحملة الأمنية قادها الجنرال أوفقير والدليمي، وانتهت بكشف مكان اختباء شيخ العرب ومن كانوا معه، وتبادل إطلاق النار مع الشرطة، ليسدل الستار على واحدة من أقوى وأخطر الحملات الدعائية في مغرب الاستقلال.

 

++++++++++++++++++++++++

عندما ألقى الأمريكيون منشورات من الطائرات لـ«استمالة» المغاربة

عندما وصل الأمريكيون إلى الشواطئ المغربية يوم 8 نونبر 1942، لم يكن لديهم أي تخوف من القوات الفرنسية، بقدر ما كانوا يتخفون من عدم تقبل المغاربة للوجود الأمريكي الجديد، في سياق فرضته الحرب العالمية الثانية. قرر الأمريكيون أن يدخلوا الحرب من المغرب ويؤسسوا قاعدة لكي تنطلق منها قواتهم إلى أوروبا وتمتد عبر شمال إفريقيا لإفشال عمليات توسع الألمان.

لم يجد الأمريكيون غير «الدعاية» لكي يقتربوا عاطفيا من المواطنين المغاربة، الذين حجوا إلى شواطئ الدار البيضاء وفضالة وغيرها من النقاط التي وصل إليها الأمريكيون. وهكذا تقرر أن تُلقى مناشير باللغة العربية، فوق رؤوس مغاربة مدينة «بور ليوطي» على وجه الخصوص، تشرح سبب وجود الأمريكيين والغرض من مهمتهم العسكرية.

هذا نموذج من هذه المناشير التي عُممت نهاية 1942:

«إن رئيس حكومة الولايات المتحدة قد طلب مني بصفتي القائد الحاكم للقوات التجريدية الأمريكية أن أبلغ شعوب إفريقية الفرنساوية الشمالية الرسالة الآتية:

لا ترتبط أي أمة مع الشعب الفرنساوي وأصدقائه بروابط التاريخ والمحبة الصميمة أوثق منها بالولايات المتحدة الأمريكية.

إن ما يسعى إليه الأمريكيون ليست سلامتهم في المستقبل فقط، بل أيضا أن يردوا إلى كل من عاش تحت علم «التريكلور» مثلهم العليا وحرياتهم وديموقراطيتهم.

إننا نجيء بينكم لننقذكم من قاهرين مقصودهم إبادة حقوقكم المحكومة الذاتية، وحقوقكم الدينية وحقوقكم لحياة مطمئنة تعيشونها لأنفسكم، إبادة مطلقة أبدية.

نجيء بينكم ليس لنضّر بكم، بل لكي نهلك أعداءكم فقط.

نجيء بينكم ونحن نؤكد لكم أننا سننسحب فورا بعد ما أزيل عنكم ما يهددكم من ألمانيا وإيطاليا.

إني أدعو إلى إحساسكم بالحقائق إلى مصالحكم وإلى مثلكم العليا.

لا تعترضوا لهذا القصد السامي.

أعينونا يعجل يوم السلام للدنيا».

هذا المنشور وقعه الجنرال دوايت آيزنهاور، وكان وقتها رئيسا للعمليات وأحد أهم المشرفين على الإنزال، قبل أن يصبح في وقت لاحق رئيسا للولايات المتحدة.

خاطب الأمريكيون المغاربة عبر مناشير أخرى، أحدها جاء فيه ما يلي:

«أيها المغاربة، نحن أصدقاؤكم من أمريكا جئنا لكي نوقف الشر الذي يهدد أوروبا ويهدد استقراركم.

نحن أصدقاء الشعب المغربي، ونشارك في هذه الحرب لإيقاف الظلام حتى لا يمتد إلى بقية أوروبا ومنها إلى المغرب.

إننا نهيب بكم تعاونكم معنا، ووجودنا بينكم سيسعدكم».

هذا المنشور، الذي وُزع في مدينة القنيطرة، مطبوعا فوق أوراق داكنة، وبحروف عربية بارزة، كان له دور كبير في جعل جيران القاعدة الأمريكية سنة 1943 يتقبلون واقع وجود الجيش الأمريكي بالقرب منهم، خصوصا وأن أجواء القاعدة كانت تثير الفضول، ونُسجت حولها الحكايات والقصص، وانقسم الشارع بين متقبل لهذا الواقع، ورافض له بحجة الاختلاف الثقافي والديني.

 

عندما اشتكت فرنسا من «دعاية» الوطنيين ضدها

قد لا يُصدق أحد أن فرنسا، في شخص المقيم العام، رفعت تظلما رسميا سنة 1942 إلى السلطان سيدي محمد بن يوسف، تشتكي مما أسمتها «حملة مغرضة وعمياء» ضد الفرنسيين في المغرب.

جاءت هذه الواقعة في سياق محموم، بعد أن أطلق الوطنيون المغاربة مجموعة من المنشورات والدوريات، والمساهمات في مجلات وصحف عربية، يدافعون فيها عن استقلال المغرب عن فرنسا، ويفضحون السياسة الفرنسية في المغرب. وبعض تلك المقالات كانت تضرب في عمق «الدعاية»، التي كان يروجها الفرنسيون عن المغرب.

فقد عممت فرنسا مجموعة من المناشير والحملات الدعائية في التراب الفرنسي، تشجع فيها مواطنيها على الهجرة إلى المغرب، للعمل في مجال الفلاحة، وسد الخصاص الذي كانت تعانيه فرنسا في المحاصيل خلال الحرب العالمية الثانية.

وضعت الحكومة الفرنسية تسهيلات متنوعة أمام الفرنسيين، بداية بتوفير أراض صالحة للزارعة في المغرب مقابل مبالغ زهيدة، والإعفاء من الضرائب، ومجموعة من الامتيازات الأخرى.

لكن المواطنين الفرنسيين الذين كانوا يطلعون على الصحافة الدولية، كانوا يقرؤون عن غياب الأمن واحتمال تحولهم إلى أهداف للوطنيين إن هم انتقلوا إلى المغرب، وتعزز هذا الخوف لديهم مع انتشار الحملات الدعائية، التي عممها الوطنيون المغاربة وتعاطف معها الاشتراكيون الفرنسيون. وهو ما ضرب الحملة الرسمية للحكومة الفرنسية في الصميم.

بعض الأحداث التي عرفتها مدن الدار البيضاء، الرباط، فاس، ومراكش، ساهمت في تعميق هذه المخاوف لدى الفرنسيين. فقد سُجلت فعلا عمليات قتل مواطنين فرنسيين كانوا يملكون متاجر أو حانات في المدن الكبرى، أو أراض فلاحية خصبة في قلب المناطق الزراعية، سواء في سهل سوس، أو ناحية الغرب. وسبب اغتيال هؤلاء الفلاحين في أغلب الحالات، كان يرجع إلى النزاع مع الأهالي حول ملكية الأراضي. فقد اتضح لعدد منهم أن الحكومة الفرنسية منحت لهم أراض مغربية تملكها قبائل أو عائلات وتستغلها، قبل أن تطرد منها أو تجبر على العمل فيها لصالح المعمرين «المُلاك الجدد»..

هذه الدعاية التي مارسها الوطنيون، كانت تستلهم أغلب مضامينها من الشرق. وظهرت منشورات تحمل آيات قرآنية تحث المغاربة على الجهاد، ورفض هيمنة الفرنسيين على بلاد المغاربة.

وفي الوقت الذي تُنتج فيه فرنسا أشرطة وثائقية لتعرضها في دور السينما في كل التراب الفرنسي لتري مواطنيها إنجازاتها في المغرب، من شركات وعمارات ومنشآت، كانت المنشورات المغربية تصف فرنسا بالبلد الاستعماري، وتحملها مسؤولية انتشار دور الصفيح، خصوصا في هامش الدار البيضاء الذي تحول إلى حزام من النازحين، بسبب نزع فرنسا ملكية أراضيهم منهم، ومنحها للمعمرين.

الدعاية التي مارسها الوطنيون عرت أيضا واقع «تكميم الأفواه»، وسجن المثقفين المغاربة، أو نفيهم إلى مناطق أخرى، أمثال التهامي الوزاني، وعبد الله گنون، والمهدي بن بركة، وعلال الفاسي، الحاج أحمد معنينو، والمختار السوسي وآخرين غيرهم. فقد كانت سياسة فرنسا تهدف إلى عزل هؤلاء المثقفين الوطنيين الأوائل عن محيطهم، لإفشال الدعاية التي كانوا يمارسونها في مدنهم ضد فرنسا.

 

الحاج التمسماني.. مسؤول الدعاية الفرنسية حاول السيطرة على الإعلام

اسمه الحاج التمسماني، وهو مواطن مغربي اشتغل مسؤولا في قسم الإعلام في الإقامة العامة الفرنسية، مع بداية أربعينيات القرن الماضي.

وفي بداية الخمسينيات، أصبح مسؤولا عن كل ما يُنشر باللغة الإنجليزية عن المغرب.

ولولا أن الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» قد أشارت إليه في مذكراتها عن العمل الصحافي في المغرب، والتي صدرت في نيويورك سنة 1954، لربما ما كانت سيرته لتُسجل، وربما كان مصيره مثل الكثيرين ممن اشتغلوا لصالح الإدارة الفرنسية، وسقطوا من الذاكرة.

عندما نشرت «مارفين» مقالا عن حياة الملك الراحل محمد الخامس وحقيقة شعبيته الكبيرة في المغرب والحمولة التاريخية لرمزيته في حياة المغاربة – نشرت المقال في مجلة «شيكاغو تريبيون» الذائعة الصيت داخل الولايات المتحدة الأمريكية- كان «التمسماني»، موظف التواصل في قسم الإعلام بالإقامة العامة الفرنسية في الرباط، يحاول تمالك أعصابه من فرط الضغط الذي وجد فيه نفسه، بسبب المقال.

إذ لم يكد هذا القسم المكلف بتلميع صورة فرنسا يبلع تداعيات حدث إثارة مطالب الوطنيين باستقلال المغرب رسميا عن الجمهورية الفرنسية، رسميا أمام الأمم المتحدة في نيويورك، بحضور ممثلي الدول الأعضاء، حتى فوجئوا بأصداء مقال «مارفين هاو» الذي تحدث عن علاقة الملك الراحل محمد الخامس ببناته الأميرات وسر إلحاحه على أن يتعلمن تعليما عصريا، في وقت كان المسؤولون الفرنسيون يروجون في الصحافة الفرنسية لمغرب آخر يعيش في «ظلام وتأخر بقرون عن ركب الحياة الحديثة». هكذا لخصت «مارفين» انطباعها الأولي، بعد مطالعتها للمقالات التي نشرتها صحافة الإقامة العامة، وحتى الصحافة القادمة من باريس، والتي كانت تجد إقبالا كبيرا في مقر «راديو ماروك».

تقول «مارفين» إن إدارة الراديو في الرباط كانت تسير وفق إيقاع وكأنها بناية في قلب مدينة فرنسية، إذ تهتم بالشأن المحلي في فرنسا أكثر مما كانت تهتم بحقيقة الأوضاع في المغرب، ولا ينجز الراديو تغطيات عن الأحداث المحلية الحقيقية إلا لتبليغ وجهة النظر الفرنسية والمقاربة الاستعمارية التي تريد فرنسا ترسيخها لدى المستمعين، بغض النظر عن كونهم فرنسيين أو مغاربة.

تضيف «مارفين» أيضا أن «مصدرها» في ذلك الوقت خلال كتابة المقال عن حياة السلطان محمد بن يوسف، كان الموظفة الأوروبية التي اشتغلت في القصر الملكي، «السيدة مارث» والتي استعان بها المكلفون من طرف الملك الراحل محمد الخامس للإشراف على ترتيب برنامج عصري لتعليم أبنائه. هل تضايقت «مارث» بعد نشر «مارفين» للمقال؟ ترد «مارفين» بأن السيدة «مارث» أبدت استحسانا كبيرا لمضمون المقال، وأثنت على الأمانة التي نقلت بها «مارفين» المعطيات والمعلومات التي زودتها بها.

«مارث» حكت كيف أن السلطان محمد يوسف كان منفتحا على تحديث حياة المحيطين به، دون التفريط في الأصالة المغربية والتقاليد. وهذا السطر وحده، تسبب لـ«مارفين» في مشاكل لا حصر لها كما علمت لاحقا من التمسماني. إذ إن ما أغضب قسم التواصل، كان هو الجملة التي قالت فيها «مارفين» بالضبط إن السلطان محمد يوسف كان يواكب الحياة العصرية، دون أن يفرط أبدا في التقاليد المغربية المرعية. حيث قالت «مارث» إن السلطان محمد بن يوسف كان صارما في تنفيذ برنامج يومي يجمع بين الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي، وأيضا الاستماع إلى مختلف الأطراف.

حدث هذا في الوقت الذي تنشر فيه الصحف الفرنسية في المغرب مقالات عن قرب نهاية «التمردات» التي يقودها «الإرهابيون»، وتنفي عنهم أي شرعية بين المغاربة، معتبرة أنهم يمثلون أنفسهم فقط ويقومون بأعمال تخريبية تستهدف أمن الفرنسيين وسلامتهم البدنية. وقد كان التمسماني مكلفا بتعميم هذا النوع من المقالات على الصحف الفرنسية الصادرة في المغرب، أو المنشورات العربية الموالية لفرنسا.

 

قصص مناشير وُزعت على زوار المغرب سنة 1952

بعيدا عن الصحف والمجلات، طُبعت منشورات أخرى كان مفعولها أقوى.

هنا نورد قصة منشور باللغة الفرنسية أصدره الوطنيون المغاربة، سيما داخل حزب الاستقلال، وكانوا يوزعونه سنة 1952 على الضيوف الأجانب غير الفرنسيين، الذين يحلون في المغرب، سواء في مهام سياسية أو بغرض السياحة.

لكن المشكل أن المنشور – وهو عبارة عن كُتيب للجيب- صدر باللغة الفرنسية، وهو ما لم يخدم الهدف من إصداره أساسا.

فقد كان الكتيب موجها إلى الجنسيات الأوروبية التي تزور المغرب، أو الأمريكيين. وهكذا فقد كان لغة كتابة المنشور عائقا أمام المهمة التي طُبع من أجلها.

إلا أن هذا كله لا يمنع من تصنيفه واحدة من أهم الحملات الدعائية القوية التي خطط لها الوطنيون المغاربة ونفذوها بالفعل. وترجع أهمية الكتيب إلى الفئة التي استهدفها، وهي كبار الضيوف الأجانب.

أحد الضيوف الأجانب الذين حصلوا على هذا المنشور، هو الكاتب البريطاني برنارد نيومان، أثناء زيارته إلى المغرب. فقد كتب في مذكراته التي صدرت سنة 1953 بعنوان «Morocco Today»، عن هذا الكُتيب:

«معظم المغاربة الذين يعيشون وضعا أفضل قليلا، يمثلون أقلية فقط، إن وُجدوا. ووضعهم الآن أفضل مما كانوا عليه قبل سنة 1912. وفي بعض الحالات، فإنهم حاليا يعيشون فترة أسوأ مما كانوا عليه من قبل».

هذا ما جاء في كُتيب الدعاية الذي يوزعه حزب الاستقلال، ويستدلون على هذا، بحجة أنه على الرغم من أن الثروة الإجمالية في البلاد قد ارتفعت بشكل كبير، إلا أن الرخاء الذي حل بالبلاد أفاد الفرنسيين إلى حد كبير، وليس المغاربة.

هناك تناقض صارخ يتضح فورا عند سماع هذا الكلام. في سنة 1921، كان عدد السكان أقل من 4 ملايين نسمة، واليوم وصل عددهم إلى تسعة ملايين. ومن بين هؤلاء هناك حوالي 400 ألف أوروبي (تسعون بالمئة منهم أوروبيون)، بالإضافة إلى 250 ألف يهودي من السكان الأصليين. كما أن 75 في المئة من إجمالي عموم السكان قرويون.

على سبيل المثال، يقولون إن المغرب كان يصدر القمح، قبل سنة 1912، بينما الآن يتوجب على البلاد أن تستورده. هذا صحيح، لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن عدد السكان تضاعف. وهذه النقطة بالكاد ينتبهون إليها!

من الأمور المسلم بها أن إنتاج الحبوب لم يزد بشكل يتناسب مع ازدياد عدد السكان. (وهي الكمية التي كانت في السابق 12 مليون قنطار، بينما الحاجة الآن تصل إلى 22 مليون قنطار). بالإضافة إلى أن العادات المعيشية قد تغيرت، وهي نتيجة للتقدم الحاصل. الناس الآن يُطالبون ببعض الضروريات في الحياة، والتي كانت في وقت سابق تدخل في إطار الترف».

بدا واضحا أن الكُتيب قد حقق نجاحا كبيرا، عندما وصل إلى يدي كاتب مشهور في أوروبا، وتُقرأ كتبه في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا.

وعندما نقل هذا الكاتب أقوى مضامين الكُتيب المغربي، فقد أسدى خدمة جليلة إلى الآلة الدعائية الوطنية في مواجهة آلة الدعاية الفرنسية. الكاتب أورد أيضا رد مسؤولين فرنسيين نقل إليهم بنفسه مضامين الكُتيب، وردوا عنها بأرقام يقولون إنها تعكس ازدهار حياة المغاربة في ظل الحماية الفرنسية، وقدموا أدلة من قبيل انخفاض نسبة الوفيات بين المغاربة، بفضل انتشار التلقيح، وارتفاع استهلاك الفرد المغربي من اللحم والسكر، وردوا الفضل في ذلك إلى «الثورة» التي أحدثها الفرنسيون في مجال الزراعة والري. إلا أن تلك الردود كلها لم تكن بنفس مستوى نبرة الرفض التي كُتب بها المنشور الدعائي الرافض للسياسة الفرنسية، التي خنقت الحريات في المغرب.. وهو ما لم يستطع المسؤولون الفرنسيون نفيه.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى