حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفنسياسيةفسحة الصيف

في ممكنات الخروج من الاستبداد والتسلطية

يبين الباحث المغربي نور الدين أفاية، في كتابه «الديمقراطية المنقوصة»، أن ثمة لبسا كبيرا بين الديمقراطية والليبرالية السياسية، خصوصا أن أسئلة متجددة تفرض ذاتها عن التمثيلية، والحقوق والرأي العام، أو تطرح على صعيد التحكم في الصراعات، واقتراح أساليب جديدة لتسيير قواعد العقد الاجتماعي. فإذا اعتبرنا أن الديمقراطية الحديثة اقترنت، تاريخيا، بالليبرالية، فهي ليست مكسبا نهائيا، لأن الديمقراطيين هم الفاعلون الحقيقيون للديمقراطية شريطة عدم السقوط في اعتبارها مجرد واجهة لحماية الرأسمال، أو لتبرير الأوتوقراطية والريع، أو التمترس وراء التقليد بالاعتماد على مستندات رمزية تجعل من الفاعل السياسي ماسكا بأمور السياسة، باسم الماضي أو القوة.

مقالات ذات صلة

 

الديمقراطية ليست شعارا للاستقطاب

ينفي الدكتور أفاية عن الديمقراطية كونها مجرد دعوة أو شعار للاستقطاب، وينادي بالنظر إليها في تعقدها، فهي نشاط مدني يستدعي الاحتكام إلى عمليات انتخابية نزيهة، وإلى قواعد المشاركة، واحترام الشروط المطلوبة للالتزام بالمشاريع والسياسات، وتستدعي انتباه الفاعلين الدائم إلى المتغيرات الاجتماعية والثقافية والمؤسسية للقيام بأدوارهم المنوطة بهم على الوجه الأمثل، وتطوير المقتضيات المعيارية والتنظيمية لتجويد أدائهم خدمة لأوسع الفئات الاجتماعية.

يتعين، كذلك، النظر إلى الديمقراطية بكونها ذات أبعاد، من بينها الحرص على أن تبقى نموذجا لتدبير شؤون المجتمع والمصلحة العامة، وضمان الحقوق الأساسية، وتيسير الالتزام بالواجبات، وتوسيع دائرة المساواة بين الناس، والنظر إليها كنمط للحكم يقوم على التداول، وتجديد النخب والمحاسبة.

أراد أفاية لكتابه «الديمقراطية المنقوصة» أن يكون قولا في ممكنات الخروج من الاستبداد والتسلطية، يتجنب الأيلولة إلى حديث متفائل عن ماهية متعالية للديمقراطية. يكفي ذلك، مبدئيا، لتفسير حرصه على عدم الانسياق وراء الكم الهائل من الخطابات المتفائلة التي انفجرت عقب مخاض «الربيع العربي»، وانصرافه، في مقابل ذلك، إلى تحليل طبيعة المعيقات التي ما تزال تستوقف إنجاز شعارات الحراك العربي عامة والمغربي منه على وجه التحديد. ولعل هذا الحذر المنهجي، وإصرار المؤلف على الإنصات لمقتضيات الراهن السياسي والاجتماعي، هو ما يميز هذا الكتاب عن غيره من الإنتاجات الفلسفية التي اتخذت من عبارة الديمقراطية عنوانا لها، وخاصة منها تلك التي سعت إلى الانخراط في نحت مفهومها في ضوء اتصال برهاناته الكونية في مقابل تبرم ملحوظ من مقتضيات الراهن العربي وإكراهاته.

على أن ذلك لا يعني أن الرجل انتهى إلى بلورة رؤية جهوية مخصوصة عن الديمقراطية، تهمل شرطها الإنساني وحاجتها إلى استلهام روح الكونية، متجسدة في رهانات الحق والعدالة والحرية وإقامة المجتمع العادل. هكذا يمكن القول إن أفاية ينأى بمقاربته عن التصورات المجردة للديمقراطية دون أن يتنازل عن روح الرؤية الفلسفية التي يفترض فيها أن تكون محاولة عميقة لبلورة فهم معقول لتحولات الراهن والارتفاع به إلى مقام الهم الذي يبعث على التفكير. ويبدو أن فهم رهانات هذا المصنف لا يستقيم من دون وعي بطبيعة حضور فكرة التسلطية فيه؛ فصاحبه ما أقدم على التفكير في الديمقراطية إلا من خلال نقد وضعها في العالم العربي، وهو نقد أتت عبارة التسلطية ترسم أبرز ملامحه، وعندي أن تحديد أفاية لمفهوم الديمقراطية كان بالسلب؛ أي بتشخيص ملامح التسلطية وإقامة دعائم الديمقراطية على خلخلة بنى التسلط والاستبداد في العالم العربي.

ليس مصادفة إذن، والحال هاته، أن يزج المؤلف بقارئه في مضمار التنقيب عن معالم التسلط التي ما تزال تقف عائقا أمام كل تفكير مشروع في الديمقراطية، ولعل وعيه بحجم وثقل هذا التسلط هو ما يفسر إصراره على تشخيص معالمه بحسبانه بنية تكلست فيها عوائق الانتقال إلى الديمقراطية في مختلف أبعادها، بدءا بالسياسي منها ووصولا إلى الثقافي والاجتماعي، وكان جوازه إلى ذلك حسه النقدي الذي رام من خلاله وضع اليد على مختلف أبعاد الديمقراطية ورهاناتها المجتمعية والثقافية والسياسية والمؤسساتية كذلك.

 

في نقد النزعة الدستورية

من الغني عن البيان القول إن موقفا كهذا ينم عن وعي بالمنزلقات التي يقود إليها استسهال فهم الراهن واختزال معضلته في بعدها الشكلي الدستوري، إذ يؤكد أفاية أن خلطا رهيبا بين مفاهيم على قدر كبير من الحساسية ما يزال يعتور تمثلنا لما حدث وللمطالب التي خرجت من جوفه؛ من قبيل الخلط بين الليبرالية والديمقراطية، وبين هذه والنزعة الدستورية التي تختزل الجهد كله في إصلاحات شكلية لا يمكن إنكار أهميتها، غير أنها لا تمثل السبب الكافي لقيام الديمقراطية. وضدا على مظاهر الخلط والتفقير التي تطول مفهوم الديمقراطية تحت وطأة ما يسميه المؤلف بـ«القراءة القانونية الخالصة»، نجده يسعى إلى بلورة فهم موسع لهذا المفهوم يستحضر في أعقابه مختلف العناصر والشروط الناظمة له، بدءا بطبيعة الدولة والدستور والأحزاب والمجتمع المدني، وصولا إلى رصد العوز الثقافي الخطير الذي يجعل فكرة الديمقراطية في جملة الأفكار الغريبة عن الوعي العربي السياسي المعاصر، مرورا ببروز دور المرأة، وما أصاب دور المثقف التقليدي من تصدع بعد تصاعد نموذج جديد «للمثقف» أتى يعبر عن بروز قوى شابة ضخت دماء جديدة في مجال الفعل السياسي العربي، واستطاعت، إلى حد بعيد، أن تكسر قدسية الصمت الذي فرضته التسلطية طيلة عقود من الزمن. من هذا المنطلق، يمكن أن نفهم تشديد المؤلف على ضرورة مجاوزة الأفق الضيق للمقاربات القانونية والصورية للديمقراطية (على حد تعبير أمارتيا صن) والتموقع في زاوية نظر تركيبية حملته على الانتقال بقارئه بين كل تلك الأبعاد دون أن يشعره بأنه يعيد التموقع في كل لحظة؛ فهو يناقش فكرة الهوية بحس فلسفي رصين، ويرصد تفجر مفهومها وتشظيه على نحو لم تخبره الذات العربية، والتحديات التي يطرحها ذلك على لعبة الخروج من التسلطية. ثم ينتقل بسلاسة إلى ربط هذا الإعضال بمسألة التعددية السياسية والثقافية ودلالة الانتقال الديمقراطي وعوائق التحديث السياسي… إلخ. لذلك يمكن القول إن في كتاب «الديمقراطية المنقوصة» إعمالا لاستراتيجيات متعددة في لعبة تفكيك التسلطية، استدعت إعادة التموقع من طرف صاحبه في مستويات عدة، ولعل الوعي بالتداخل والتمايز الحاصل بين تلك المستويات يبقى شرطا لا محيص عنه لفهم رهانات الكتاب.

إذن، همان مركزيان يستبدان بالمؤلف ويستحوذان على معظم مساحة الكتاب، يتعلق أولهما بالرغبة في تقديم «فهم معقول» لظاهرة التسلطية التي لازمت التاريخ السياسي العربي، ووجدت في بنيانه الاجتماعي والثقافي إطارا حاضنا لها، سرعان ما سيلعب دور العائق في تلقي فكرة الديمقراطية نفسها، وثانيهما يرتبط بالحاجة إلى إعادة النظر في تمثلنا لمفهوم الديمقراطية نفسه، والعمل على إخراجه من أفقه الشكلاني والتمثيلي الضيق. إن الكشف عن هذه العلاقة الجدلية القلقة بين فهم التسلطية وتمثل الديمقراطية هو ما يشكل في اعتقادي أبرز مظاهر قوة كتاب «الديمقراطية المنقوصة»، وسأحاول في ما يلي أن أبسط القول في بعض تجليات هذه العلاقة من خلال التفكير في الأسئلة التالية: كيف استطاعت التسلطية، وما تزال، خلق شروط البقاء والاستمرارية، رغم الوعي بضرورة الخروج منها؟ وهل استطاع الحراك العربي أن يخلخل بعض بنياتها العميقة فعلا؟ وكيف يؤثر وعينا السلبي بمظاهرها في بلورة فهمنا للديمقراطية؟

تتعدد السمات التي يصف بها أفاية التسلطية، ولعل أبرزها ما يسميه سياسة «الإذلال» الممنهج الذي يقوم على نشر جو من الخوف والرعب يفرغ المواطن من هويته السياسية (المواطنة)، ليحوله إلى مجرد فرد داخل مجتمع من الحشود، يروض المرء داخل هذا الجو على التنازل عن كرامته واجتراع مرارة الإساءة إليها. كما تقوم التسلطية على قتل فكرة التعددية التي تعتبر من مقومات الشرط السياسي للإنسان بحسبانها الوجه الآخر لشرط الاختلاف وضمانة لا بديل عنها للحرية السياسية، وما يرافق ذلك من تأزم ثقافي واجتماعي ناجم عن تضخم فكرة الهوية الواحدة والوحيدة التي تأتي على الحق في الاختلاف باسم وحدة متعالية ميتافيزيقية.

 

الحراك العربي

البروز الملحوظ لسؤال الهوية الذي ساوق الحراك العربي لم يكن وليد مصادفة، ولا يمكن حصره فقط في توظيف سياسي لهذه الفكرة، بل يأتي في مضمار تحرر حيز من المكبوت السياسي التسلطي متجسدا في جدلية التفاعل بين مختلف الهويات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي جهدت الأنظمة التسلطية في سبيل قبرها. وانتبه أفاية إلى أن هناك «من يقرأ تجليات الهوية العربية المنتفضة من زاوية فلسفية ترى أن ما يجري التعبير عنه دليل على إرادة جماعية لإعادة بناء الهوية على قاعدة الحرية والمساواة والكرامة والتخلص من بنية الاستبداد التي سيجت الكائن العربي في واقع قهري واستلابي طيلة عقود، وفرضت عليه تعريفا وجوديا لا يلائم وجوده في عالم متغير». إن إصرار المؤلف على تحليل مفهوم الهوية في علاقته بالتحولات التي عاشها العالم العربي يجب ألا يفهم بحسبانه نتيجة رؤيته الفلسفية إلى موضوع كتابه، بل هو تعبير عن وعيه بالانقلاب الوجودي الذي يأمل الوجدان الطامح إلى التحرر إلى إدراكه، كما يمكن أن نقرأ فيه تنبيها على الخطورة الكبرى التي تثوي وراء تضاعيف سؤال الهوية، وما يقتضيه ذلك من تعجيل بموقعته ضمن الأسئلة التي يجب على الفكر العربي أن يحسم فيها قبل أن تعيد الحسابات السياسية الضيقة ابتلاعه من جديد.

وضدا على هذه التعددية التي يفرضها مفهوم الهوية، باعتباره مفهوما محايثا ومعبرا عن جانب من الرهانات القصوى للكينونة العربية، عمدت التسلطية إلى التشرنق على وهم الوحدة المتعالية التي نسفت فكرة التعددية في مختلف مستوياتها، بل وعملت على إبدالها بعددية حزبية تفرغ المجال السياسي من معناه بحكم قدرتها الهائلة على الاستيعاب القسري للفاعلين السياسيين ولمختلف المكونات المؤسساتية الناظمة للمجال السياسي العمومي. وسبق للأستاذ العروي أن نبه إلى هذا المعطى في كتابه من «ديوان السياسة»، عندما اعتبر أن «المدار العمومي حيث يكون التجمهر والتشاور، حيث تلقى الخطب، وحيث يتم التواصل والتبليغ، وحيث يتحقق التوادد والتآخي، وحيث ينفسح الأفق ويتطور الانتماء، وتتحول العضوية العفوية الطبيعية إلى تبصرية اختيارية، إما منعدم وإما محدود، والسبل الموصلة إليه قليلة وفي الغالب مطموسة». يحاول أفاية تسليط الضوء على ما أصاب الفضاء العمومي من طمس ممنهج، صادرا في ذلك عن وعيه بأن «مسار الانتقال مسار شامل، متعدد المستويات، وأنه يستدعي مشاركة كل المكونات الاجتماعية والسياسية لترجمة مطالب الانتقال إلى إجراءات عملية، وإلى بناء مؤسسي». لذلك نجده يشدد على أن إعادة بناء الفضاء العمومي والسياسي ليست مسألة قرار سياسي انفرادي، كما أنها تتطلب زمنا سياسيا ومجتمعيا قد يبدو للأفراد المتعطشين للتغيير رتيبا جدا، خاصة أن المسألة لا تتعلق بتغيير شكلي على مستوى المؤسسات، بل بسيرورة اجتماعية وثقافية شاملة.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى