شوف تشوف

الرئيسيةملف الأسبوع

حملة التطهير….حين أجبر البصري رجال الأعمال على الإفطار في رمضان

هل كان الأمر مجرد صدفة أن تتفجر في جل ربوع المملكة، فضائح بحجم كبير فقط في عز شهر رمضان والناس صيام؟
ندخل شهر الصيام، لتطلع علينا الأخبار عن واقعة قد ترقى إلى مكانة الفضيحة أو أزمة أو قضية تهز البلاد وتصنع الحدث بالطول والعرض، فتسيل حبرا غزيرا على ورق الصحف. ولا يملك المغاربة وقتها غير أن يتابعوا مسلسل القضية بكثير من التشويق، تماما كما يتابعون «سيتكومات» رمضان أو مسلسلاته المدبلجة. غير أن الفرق بين هذا وذاك، هو أن فضيحة بحكم ما عاشه المغاربة مثلا في قضية حملة التطهير، لم تكن من صنع الخيال، ولكنها كانت من صميم الواقع المغربي.

ظل البعض يعلق على أن بعض الملفات التي تفجرت، وتحديدا حينما تتزامن مع حلول شهر رمضان، كانت للسلطة في عهد البصري يد فيها. بل ويضيف بعض المتشككين: كيف أن السلطة كانت تسعى بين الفينة والأخرى إلى إلهاء الناس عن القضايا الجوهرية التي تشغل بالهم، وتحديدا حينما يشتد الخناق على قدرتهم الشرائية، فتخرج من كمها، مثل ساحر بارع وعارف بأدوات اللعب، قضية أو فضيحة أو ملفا، تريده أن يصنع الحدث ويملأ الدنيا ويشغل ناسها.

في شهر رمضان من سنة 1996، شن إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، حملة تطهيرية ضد بعض رجال الأعمال «المتورطين» في ملفات شائكة تجمع بين تهريب الأموال إلى الخارج وتجارة المخدرات.

القضية طرحت في شهر شعبان على أنظار المجلس الوزاري الذي عقد في أوائل شهر دجنبر، وفيه رفض عبد اللطيف الفيلالي تولي العملية، ما اضطر الحسن الثاني إلى تكليف البصري بها، حيث انطلقت أولى المداهمات والاعتقالات في حق بعض المهربين، خلال شهر فضيل قضاه المتهمون أمام المحققين ليعيشوا أصعب أيام عمرهم.

اجتماعات شعبان تمنح ومعركة رمضان
قال الراحل الحسن الثاني في اجتماع صاخب لوزرائه ومستشاريه: «أجمعكم اليوم لمناقشة موضوع مهم، وإذا استمررنا بهذا الشكل فالأمور تسير إلى الأسوأ. سأضع المفتاح فوق الباب»، ويقصد أن الأمور بدأت تنفلت ولا بد من تقويم الوضعية. وأضاف أن العملية من اختصاص الوزير الأول عبد اللطيف الفيلالي، الذي أبدى تراجعا مبررا بوضعه الصحي الذي لا يسمح له بفتح ملف من هذا الحجم، سيجر عليه نقمة الصحافة.

عم الصمت فضاء الاجتماع وظل صوت الحسن الثاني يملأ المكان، وهو يلوح بقلم في يديه كالسيف، قال إنه سيتحمل المسؤولية وسيكلف وزير الداخلية بهذا الملف، وبرر الأمر بقوله: «سي إدريس سيتكلف بالإعداد التقني للعملية، لأنه يوجد على رأس قطاع محوري ويتدخل في الاقتصاد عبر المصالح الاقتصادية للولايات والعمالات، ولديه سلطة التدخل في قطاعات أخرى، من بينها الجمارك، وسيكون إلى جانبه في اللجنة من طلبا هذا الأمر، قبل سنتين، وهما إدريس جطو ومحمد القباج».

كشف الملك عن اسمين ساهما في تحريك بركة القضية الراكدة، وذكر في اجتماع رسمي اسمي جطو الذي كان وزيرا للتجارة والصناعة ومحمد القباج الذي كان يشغل حينها منصب وزير الاقتصاد والمالية، وأعطى تعليماته لتحضير لوائح المهربين، داعيا إلى السرية التامة في معالجة هذا الملف.

صدرت تعليمات إلى أعضاء اللجنة المكلفة بهذا الملف الساخن بعدم الاكتفاء بفرض غرامات، كما تنص عليه مدونة الجمارك، بل على ضرورة فرض عقوبات سجنية، عسى أن يكون ذلك كافيا ليردع المخالفين للقانون، ويكونوا عبرة للآخرين، تحت مبرر «التدخل لإنقاذ الوضع وحماية الاقتصاد».

لم يتخذ الحسن الثاني أي قرار ضد عبد اللطيف الفيلالي، الوزير الأول الأسبق، رغم إصرار هذا الأخير على أخذ مسافة بينه وبين ملف حارق، بل أنكر في أكثر من حوار علمه بالحملة التطهيرية وأكد موقفه خلال المجلس الحكومي الذي تلا الإعلان عنها، حين واجهه وزير حقوق الإنسان محمد زيان بسؤال محرج عن دوره ورأيه في ما يجري، ليأتي يوم يعلن فيه وزير حقوق الإنسان أنه لا يعلم ما يجري حوله، وهو ما صرح به في حوار على القناة الثانية.

لم يكن إيقاع حملة التطهير مسايرا إلا لرغبة إدريس البصري، وقد كان هناك تذمر واسع من النهاية التي آل إليها بعض المسؤولين الذين استنطقتهم أجهزة وزير الداخلية القوي، فيما كان بعض المحسوبين عليه طلقاء، رغم أنهم متورطون أيضا في صفقات مشبوهة وكانت لديهم عقارات بالخارج، لا يتوفرون على أي وثيقة قانونية تفسر الطريقة التي حولوا بها أموال اقتناء تلك العقارات إلى الخارج، وهو دليل دامغ على أنهم كانوا يمارسون تهريب الأموال إلى الخارج. لقد صدقت الحكومة كلام وزير التجارة والصناعة، الذي قال إن الحملة ستضخ ملايير الدراهم في خزينة الدولة.

أمالو: الحسن الثاني توعد أربعة وزراء قبل حملة التطهير
لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني خارج النص، وهو يتحدث من على منصة البرلمان وأمام ممثلي الأمة، عن السكتة القلبية التي تهدد المغرب الذي كان تحت السلطة شبه المباشرة لرجل الشاوية إدريس البصري، وزير الداخلية الأقوى في كل حكومات المغرب الحديث. وكان لا بد أن يستثمر هذا الرجل تلك الثقة التي وضعها فيه الحسن الثاني ليصفي مرة حساباته، ولينتقم مرات أخرى ممن يعتبرهم خارج الصف. ومن ثم فحينما اجتاحت المغرب في سنة 1996 نفسها موجة التطهير، كان لا بد أن تأتي على الأخضر واليابس، وجرت في طريقها الكثير من الأبرياء، الذين ضاعت رؤوس أموالهم فأضحوا مفلسين.

يتذكر عبد الرحمان أمالو، وزير العدل الأسبق، هذه الواقعة فيقول: «جمعنا إدريس البصري وقدم لنا ورقة كتب عليها بـ«أوامر من جلالة الملك الحسن الثاني»، ووضع عليها اسمي إلى جانب اسمه، فضلا عن أسماء كل من جطو والقباج، وكان هذا هو الاجتماع الأول والأخير معه، لأنه استفرد بالأمر ولم يعد يشركنا في أي شيء».

لقد عاش المغرب قبل ذلك أكبر حملة لتهريب الأموال إلى بنوك الخارج من قبل رجال أعمال مغاربة، وعرف أيضا أكبر موجة لهروب الاستثمارات الأجنبية من المغرب، مما أثر سلبا على الاقتصاد الوطني وترك الكثير من الآثار السلبية على حياة المواطنين، وليس فقط على الذين مستهم الإجراءات التي اتخذها إدريس البصري.

سيتولى وزير المالية وقتها محمد القباج الملف الذي سيخبر الحسن الثاني، وهو برفقة مدير الجمارك، بوجود تجاوزات يقوم بها بعض الأشخاص في مجال الاستيراد المؤقت، قبل أن يسلماه لائحة من 30 اسما، ويقترحا عليه تحذير أولئك المستوردين عن طريق إنذارات كتابية أو بواسطة عناصر الأمن، مع منحهم مهلة سنة ليقوموا بحل المشاكل المتعلقة بنشاطهم الاقتصادي، لكن الملك رفض. وقال إن المعنيين بالأمر لن يردوا على الإنذارات الكتابية ولن يولوها أي اعتبار، ولذلك يبدو من الأحسن أن تستعين وزارة المالية وإدارة الجمارك بالسلطة. ليتحول الملف إلى يد إدريس البصري.

ويحكي عبد الرحمان أمالو، الذي شغل منصب وزير العدل في تلك الحكومة، وهو واحد من الوزراء الأربعة الذين استقبلهم الحسن الثاني، بشأن هذه القضية: «لقد استقبلنا الراحل الحسن الثاني، وخلال اللقاء بدا منزعجا، ووجه كلامه إلى وزيره الأول، وأعاد عليه السؤال قائلا: «آسي الفيلالي ها أنا ذا أعيد عليك، مرة أخرى، القضية التي كنت أول من أخبرني بها، فهل أنت مستعد لتباشر الملف؟». فما كان من الفيلالي إلا أن جدد اعتذاره مرة أخرى، وتحجج بأن وضعه الصحي لم يتحسن، ولا يؤهله لأداء المهمة، فقال الحسن الثاني: «الظاهر أن المغاربة لم يريدوا أن يفهموا، وسأمنحكم مهلة لتحضير أنفسكم».

شاءت الأقدار أن يعيش أمالو، الذي لقب بصاحب الحقيبتين (العدل وحقوق الإنسان)، في ظل حياة التقاعد ضائقة مالية، حيث اضطر إلى الاعتماد على ما يتلقاه من معاشه كأستاذ جامعي، واختار السكن في بيت على سبيل الإيجار.

الصيدلي بن عبد الرزاق من حملة التطهير إلى الإنصاف والمصالحة
لم يكن منصف بن عبد الرزاق وهو يتابع دراسته في مجال الصيدلة في فرنسا، يعتقد أن أحلام الحياة الجامعية ستتحول إلى كابوس. فقد عاد إلى المغرب سنة 1978 وقضى سنتين كصيدلي متدرب في وزارة الصحة، ضمن ما كان يعرف بالخدمة المدنية، وبعدها فتح صيدلية في حي عين السبع بالدار البيضاء، وبعد عشر سنوات راودته فكرة ولوج الصناعة الصيدلية، بحكم أن تكوينه كان في هذا المجال وحلمه الكبير هو فتح مختبر صيدلي وليس محلا لبيع الأدوية.

ابتداء من سنة 1993، أنشأ منصف شركة «أنجيفارم»، وأبرم عقودا مع مختبرات خارج المغرب وشرع في وضع مخطط بناء مصنع للأدوية بتطوان، وشرع في استيراد كميات من عبوات «السيروم» وتخزينها في مخزن بعين السبع، ترجع ملكيته إلى صهره.

فجأة علم بن عبد الرزاق أن السلطة طوقت المخزن الذي تم اقتحامه من طرف العشرات من رجال الأمن، بحضور كاميرات التلفزيون الرسمية، وكانت الساعة تشير حينها إلى الحادية عشرة والنصف ليلا، وفي اليوم الموالي تم تشميع المخزن، وتلقى دعوة للمثول أمام مصالح الأمن، كما استقبله بوشعيب ارميل، الذي كان حينها واليا لأمن الدار البيضاء، واستفسره عن سر تخزين «السيروم»، وتبين لوالي الأمن أنه لا وجود لطرف مشتك وأن الجمارك لم تتابعه في قضية استيراد هذه المادة التي كان يبيعها إلى المصحات الخاصة.

وبتاريخ 30 دجنبر في عز رمضان تقرر اعتقال الصيدلي وصهره، رغم أن هذا الأخير كان يعالج في إحدى المصحات بسبب ضغط الدم، «قضيت يومين تخللتهما حصص استنطاق، وكان المحققون يرفضون أن يسجلوا كثيرا من المعطيات التي أخبرهم بها، وتم تقديمي إلى نائب وكيل الملك جمال سرحان، الذي رفض اعتقالي نظرا إلى غياب المتابعة، وقال لي بالحرف: «إذا لم تكن أي متابعة في حقك من طرف الجمارك فملفك فارغ ولن يتم اعتقالك، لأفاجأ بتقديمي أمام وكيل ملك جديد، لم يكن سوى نور الدين الرياحي»»، يقول منصف في حوار صحفي.

ركز المحققون على سر وجود عينات من «الغاماغلوبيلين» في ثلاجة المخزن، كما تم حجز علب العازل الطبي تجاوزت صلاحيتها، والتي قال عنها الصيدلي: «كنت أحتفظ بها في مكان خاص في انتظار تدميرها بسبب انتهاء مدة صلاحيتها»، فتوبع بتهمة إدخال عينات ملوثة بفيروس السيدا والتهاب الكبد.

صدر حكم ضد الصيدلي بسنة حبسا نافذا وبغرامة مالية، بعد ذلك توبع في ملف جديد وبتهمة جديدة، اعتمادا على ظهير الغش في المواد الغذائية، «وكأن العازل الطبي مادة غذائية يستهلكها المواطنون»، يقول منصف في الحوار نفسه، وقررت المحكمة سجنه خمس سنوات إضافية.

عانى الرجل من تبعات الحكم بالرغم من العفو، فقد دمرت حياته الزوجية وفقد ابنه البكر، واضطر للجوء إلى هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كان ردها محبطا «ملف لا يدخل ضمن اختصاصات الهيئة».

الذيب يكشف للبصري اسرار حماية البحر
ظلت صورة واسم أحمد بونقوب حاضرين في واجهة الحملة التطهيرية، حيث زج بهذا الرجل الشهير بلقب «حميدو الذيب» في الصحافة كأحد أكبر تجار المخدرات على المستوى العالمي، وكان وجوده ضمن المعتقلين كافيا للرأي العام ليبتلع قرص التطهير، حيث تعدت التعليمات حدود الاعتقال للاستنطاق إلى الحبس وحجز الممتلكات.

كان البصري يردد في حواراته أن اعتقال حميدو يندرج في سياق تنظيف الشمال من تجار المخدرات، وحين تداهمه الأسئلة حول حجز ممتلكات المتهمين قبل النطق بالحكم، يردد عباراته الشهيرة: «الحملة جاءت بتعليمات مباشرة من الملك الحسن الثاني».

قال «الذيب» في حواراته الصحفية: «إنه اعتقل من طرف أشخاص بزي مدني وإن تفتيشهم للبيت وللمخازن لم يأت بأي نتيجة». خضع لساعات من التحقيق المتواصل في عز رمضان، تضمن تساؤلات حول ثروته ومصدرها وعلاقته بتجار المخدرات، لتنتهي حصص الاستنطاق بعد السحور بالاستقرار على تهمة «الاتجار الدولي في المخدرات».

أثناء حملة 1996 التي اعتقل فيها حوالي 400 شخص متهم بالاتجار في المخدرات والاغتناء غير المبرر، فاجأ حميدو المحققين حين كشف لهم عن تعاونه مع الدولة في بعض الملفات الأمنية، وأنه كان وراء القبض على جزائري كان من منفذي الهجوم الإرهابي، الذي استهدف فندق «أسني» بمراكش سنة 1994. ومن أغرب ما قاله الذيب للمحققين إنه كان يحرس شاطئ البحر من كاب سبارطيل إلى القصر الصغير، ويساهم في محاربة الهجرة السرية من خلال فيلق من رجاله.

لكن القضاء أصدر في حقه حكما بعشر سنوات سجنا، قضى منها سبع سنوات وتسعة أشهر من العقوبة السجنية المحكوم عليه بها، قبل أن ينال العفو من الملك محمد السادس سنة 2003.

خلال فترة محاكمته واعتقاله تم الحجز على أملاك حميدو، وحين غادر السجن ظل يبحث عن سبيل لاسترجاعها دون جدوى، فراسل الديوان الملكي في الموضوع وجرى التحقيق معه من جديد في قضية الثروة المحجوزة.

أزمة الميناء وحل اللجن الجهوية للتطهير
في 25 مارس 1996، ألقى الملك الحسن الثاني خطابا تحدث فيه عن ميثاق جديد بين الدولة والاتحاد العام للمقاولات كإطار يجمع رجال الأعمال، ومما شدد عليه أن الحل ليس في شن حملة، بل بإصلاح مؤسسات الدولة وتحصينها، وهذا من شأنه أن يقلل مظاهر الفساد المستشري في دواليب الإدارة.

كان اللقاء الأخير الذي جمع الحسن الثاني بمكتب الاتحاد بداية لانفراج الأزمة العميقة التي خلفتها غارة البصري، وتبين للملك أن شد الخناق على رجال المال والأعمال من شأنه أن يحدث اختناقا في الاقتصاد المغربي، حيث كتبت الصحافة عن أزمة رصيف ميناء الدار البيضاء، وجاء في «العلم»: «تكدست الحاويات بالآلاف في ميناء الدار البيضاء بسبب رفض أصحابها سحبها خوفا من المتابعة، إذ بلغ عددها إلى حدود منتصف فبراير 6 آلاف حاوية، منها 4000 للاستيراد، في وقت لا تتسع محطة التخزين لهذا العدد». ونبهت الصحيفة إلى خطر التراجع المهول للمداخيل اليومية للميناء، التي تعد من الروافد الأساسية لخزينة الدولة، إذ تقلصت إلى ما دون 3 ملايير سنتيم، في وقت كانت تسجل ما بين 5 و6 ملايير سنتيم قبل إطلاق الحملة. «أخطر من ذلك أنه تأكد للحسن الثاني أن مخزون الحبوب المتوفر في المطاحن لم يعد يكفي سوى لبضعة أيام، على أقصى تقدير».

لهذا لم يجد الحسن الثاني بدا من اتخاذ قراره النهائي بتوقيف الحملة، عبر إعطاء أوامره إلى وزير الداخلية وباقي أعضاء اللجنة الوطنية للتهريب بعقد لقاءات ماراثونية مع ممثلي رجال الأعمال، وهي اللقاءات التي كانت تعرف تشنجات ولحظات توتر، كان آخرها مع عبد الرحيم الحجوجي، الرئيس الأسبق للاتحاد العام لمقاولات المغرب.

خلصت الاجتماعات التي أمر الحسن الثاني بعقدها في النهاية إلى حل اللجن المحلية لمحاربة التهريب، وتمخضت عنها لاحقا صياغة نص العفو الملكي الشامل، الذي استفاد منه جميع المعتقلين بتاريخ 16 أكتوبر 1997، ليسدل بذلك الستار على حكاية حملة تطهير كاد البصري أن يرسم لها نهاية مأساوية.

وجوه في فوهة مدفع حملة التطهير
تناوبت أسماء عديدة على ملف التطهير، ساهم كل من موقعه في التحقيق مع المتهمين، بوشعيب ارميل، والي أمن الدار البيضاء الأسبق، ونور الدين الرياحي، وكيل الملك في المحكمة الابتدائية في الدار البيضاء- أنفا، وحفيظ بن هاشم، العامل المدير في وزارة الداخلية… فضلا عن أن إشراف النيابة العامة على العملية كان يعطيها قوة قانونية، ويصبح ممثل النيابة العامة هو المسؤول عن سلامة الإجراءات.

أثناء الحملة التطهيرية، وجد مولاي الطيب الشرقاوي نفسه في عين الإعصار باعتباره وكيلا عاما، فبأوامر منه وبتعليمات من إدريس البصري، كما سيعترف بذلك وزير العدل الأسبق نفسه، عبد الرحمان أمالو، تم التحقيق بسرعة في أكثر من 1200 ملف، جل المتهمين فيها كانوا أبرياء، الأمر الذي ترتب عنه ضياع مستقبل العديد من الأشخاص، وتفكيك الكثير من الأسر. تلك كانت هي النقطة الداكنة في مسار هذا الرجل، رغم أن عبد الرحمان أمالو حاول في ما بعد، تبرئته من المسؤولية وتحميلها كليا لإدريس البصري، لكن بعد فوات الأوان.

ومع مرور الوقت، تنامت قيمة مولاي الطيب وزاد وزنه الاعتباري في هرم السلطة. فقد أصبح يعتبر الرجل القوي في وزارة العدل، بعدما صار بمثابة حلقة الوصل التي لا محيد عنها بين الوزارة التابع لها ووزارة الداخلية. كان المحققون يقضون ليالي رمضان في تعقب خيوط قضايا متشابكة، تحت ضغط وزير الداخلية.

لا بد من الوقوف عند اسم آخر لمع في فضاء المحاكم وهو امحمد العراقي، عندما كان مراقبا للانتخابات بالدار البيضاء خلال الاستحقاق الانتخابي لسنتي 1992 و1997، وهو الذي تدرج في جميع أسلاك القضاء، وكيلا عاما، قاضيا للتحقيق، رئيسا للغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، مفتشا بوزارة العدل، مراقبا للانتخابات، وكيلا عاما بمكناس ثم والي ديوان المظالم (وسيط المملكة حاليا)، إذ ظل مولاي امحمد العراقي يعمل جاهدا على سمو السلطة القضائية واستقلالها، لكنه كان معارضا لمسار التحقيق في ملفات الحملة.

عرفت حملة التطهير لسنة 1996 عدة خروقات، وقد تم استبعاد المسؤولين القضائيين الذين كانوا يمتلكون سلطة القرار، ليتولى الوزير تدبير الأبحاث والمتابعات بتنسيق مع وكيل الملك بأنفا آنذاك. ونزع الملف من مدير الشؤون الجنائية والعفو، كما تم تهميش الوكيل العام للملك بالدار البيضاء في ذلك الوقت.

وقد فوض وزير العدل لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء أنفا كل السلطات في ما يتعلق بالمخالفات الجمركية على الصعيد الوطني، وأصدر بذلك مذكرة أرسلها إلى كل الوكلاء العامين بالمغرب، يأمرهم بمقتضاها بإحالة جميع المساطر المرتبطة بحملة التطهير مباشرة إلى وكيل الملك بأنفا. فأصبح هذا الأخير يمتلك صلاحيات تعادل صلاحيات مدير الشؤون الجنائية والعفو، بمقتضى هذه الرسالة الدورية.

«من أين لك هذا؟».. كابوس مهربي الأموال
في عهد لم يكن فيه ذكر لـ«تبييض الأموال»، كان صاحب «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير»، عبد الكريم الفيلالي الذي توفي في نهاية شتنبر 2013، أول من طالب في تاريخ البرلمان المغربي بمحاسبة الأغنياء الجدد داخل الدولة المغربية. فقد كان الفقر في الأوساط الشعبية يزداد اتساعا وانتشارا خلال الستينات، في وقت كان فيه الأغنياء الجدد يتكاثرون في المساحة الضيقة للوزارات والمؤسسات التابعة للدولة. كانوا يدخلونها كباقي المواطنين ويخرجون منها بثروات ضخمة ومشبوهة أيضا. وهو ما جعل عبد الكريم الفيلالي، المؤرخ الغاضب، يصيح داخل قبة البرلمان خلال أواسط الستينات: «من أين لك هذا؟» ويطالب بسن قانون يحمل الاسم نفسه، ليحاسب جميع المسؤولين المغاربة بمن في ذلك الوزراء والمستشارون الذين اغتنوا بشكل فاحش، وفي فترة قصيرة جدا.

كان عبد الكريم الفيلالي مغضوبا عليه في محيط الملك الراحل الحسن الثاني، سيما أنه كان يجهر بعداوته لمستشاري الملك، خصوصا منهم أحمد رضا اكديرة، وكان يتهمه باستغلال قربه من القصر ليراكم ثروة ضخمة، ولم يكن اكديرة ليرد على الفيلالي الذي كان مؤرخا أيام الملك الراحل محمد الخامس.

هذه الحملة لم تلق آذانا صاغية، رغم أن الملك الراحل الحسن الثاني كان قد حل البرلمان وأوقف الوزراء في إطار ما كان يعرف بحالة الاستثناء، وهو ما اعتبره الكثيرون إشارة قوية من الملك الحسن الثاني إلى غضبه الكبير تجاه الوزراء الفاسدين والبرلمانيين الذين كانوا لا يقومون بمهامهم كما يجب، بل تفرغوا لأغراضهم الشخصية على حساب المواطنين.

هذا التفسير يقول إن الملك الحسن الثاني أوقف كل شيء لأنه كان غير راض عن المسؤولين أمامه، وتكلف شخصيا بتفقد الوزارات والقطاعات الحيوية بالبلاد، ليزاول لوحده مهام جميع وزراء الحكومة. حالة الاستثناء التي أغلق على خلفيتها البرلمان، كان تلتقي مع دعوة عبد الكريم الفيلالي في نقطة وقف نزيف الأموال من خزينة الدولة. فالذين اغتنوا بسرعة، أصبحوا كذلك لأنهم استغلوا مناصبهم، وحالة الاستثناء جمدت جميع أنشطتهم، ليتوقف النزيف ولو بشكل مؤقت.

عبارة «من أين لك هذا؟»، التي دعا إليها الفيلالي في سنوات الستينات، عادت بقوة بعد وفاته في 2013، وتحسر الكثيرون لكون هذا الشعار بقي حبيس القاعة التي لفظه الفيلالي تحت قبتها، ولم يفعل إلا في ظروف معينة، سرعان ما تم طي صفحتها، بعد أن راجت أقاويل كثيرة عن عدم مصداقيتها، تماما كما وقع خلال «حملة التطهير» التي قادها إدريس البصري منتصف التسعينات، وأطاحت برؤوس كثيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى