شوف تشوف

الرأي

حياة الكتابة وموت المؤلف

عبد السلام بنعبد العالي

في مقال مثير لبورخيس بعنوان «بورخيس وأنا» [1] يشخص «صاحبه» العلاقة بين الكاتب بورخيس وبين الشخص الذي يحمل الاسم نفسه.
يبدأ المقال برسم المسافة العميقة التي تكونت بين الشخص بورخيس و«ذلك الآخر». والظاهر أنها مسافة يطبعها بعد شاسع، وانفصال عميق، بحيث لا يتعرف بورخيس على أخبار الكاتب «إلا عبر البريد»، أو «عندما يرى اسمه في قائمة الأكاديميين أو في بعض معاجم الأعلام». لقد انفصلا عن بعضهما، فغدت علاقتهما محتاجة إلى توسط. إنها علاقة يتوسطها الإعلام، بحيث لا يعرف بورخيس أخبار «الآخر»، إلا بما يلتقطه من معلومات عبر هذه القناة أو تلك.

وعلى رغم ذلك فليست العلاقة بين الطرفين علاقة عداء، إلا أن الانفصام بينهما من الشدة إلى حد أنه عندما يحاول الكاتب أن يقترب من الشخص بورخيس، وأن يقاسمه ميوله وانشغالاته اليومية، فإن ذلك يتم «بطريقة سمجة»، وتظل العلاقة مفتعلة «كأنها تقمص ممثل لدور من الأدوار».
لذلك يحس بورخيس أنه لم يعد شيئا إزاء هذا الآخر المنفلت، بل إنه يشعر بنوع من التقزم نحوه، فينتهي بأن يدرك أنه لم يعد معنيا بهذا الآخر البعيد: «ما يكتبه ليس له أن ينقذني». وعلى أية حال، فإن ما يكتبه ليس له أن يفيد حتى صاحبه: «إذ إن ما يكتبه ليس مِلكا لأحد، ولا حتى له هو، «إنه ملك للغة ذاتها وتراثها»».
ليس هذا «الآخر» إذاً «أنا» آخر ينتصب في مواجهة بورخيس. فلسنا هنا إزاء تصادم بين ذاتيتين Sujets، وإنما أمام شخص يحس أنه كلما كتب أخذ منه تاريخ الكتابة، وأخذت منه اللغة كخزان فكري وتراث متراكم، ما يبدعه، إلى حد أنه يشعر أن حركة ضخمة تمتصه هو وتبتلع ما يصدر عنه.
لا معنى، والحالة هذه، أن نقول إننا أمام حركة استنساخ، أمام صورة ونسخة، أو نقول إن بورخيس يرى نفسه في مرآة الآخر، إذ إن هذا الآخر لا يعكس صورة، وإنما يلتهم منتوج صاحبه، فيزداد ضخامة وغنى وتراكما.
ومع ذلك فإن بورخيس يعترف بنوع من الرابطة بينه وبين هذا «الآخر» الذي، رغم انفلاته، فهو يظل نوعا من الاستمرار في الوجود، نوعا من الخلود: «هو امتدادي. تنازلت له عن كل شيء» و«أنا سأبقى في بورخيس، وليس في نفسي». معنى ذلك أن مصيري أنا الزوال، ومن سيخلد هو الآخر، أو لنقل هو ذاك الذي سيسكن اللغة ويتجسد في تاريخها. نحن إذاً أمام رباط مسروق إلى حد ما. إننا أمام تنازل قسري، أمام ضياع في الآخر. هي إذاً علاقة غريب بغريب: «أنا لا أجد نفسي في كتبه إلا قليلا، أقل مما أجده منها في كتب أخرى عديدة». كأن بورخيس يشعر أن الكتابة التي تصدر عنه تتحول إلى كتابة «أخرى»، وأن تاريخ الكتابة يتنكر له بعد أن يأخذ منه كل ما يمكن أخذه.
مع مرور الوقت إذاً تتحول العلاقة بين الطرفين إلى علاقة استعباد: «حاولت قبل سنين أن أحرر نفسي منه، فانتقلت من أساطير الحارات الفقيرة وضواحي المدينة إلى اللعب مع الزمن واللانهائية، لكن هذه الألعاب تعود إلى بورخيس الآن، وعلي أن أبتكر أشياء أخرى».
يستعرض بورخيس هنا بنوع من السرعة مساره ككاتب، ويتابع تحول موضوعات مؤلفاته، إلا أنه يشعرك في النهاية أن ذلك التاريخ الشخصي لم يعد تاريخه، وأن عليه أن يعاود الكرة ويبدأ من جديد.
فكل ما يعتقد هو أنه شيء يخصه، يستحوذ عليه ذلك «الآخر» الذي لا يرتوي ولا يقنع. فهو لا يكتفي بأن يمتص صاحبه ويسرقه ويستعبده، وإنما يسلبه كل ما يملك، «يستلبه»، يسلبه حتى شخصه: «لقد ضعت فيه، وانتهت الأشياء جميعها إلى خسارة».
هل يمكننا أن نقول، بلغة هيغل، إن هذا الضياع وهذا الاستلاب، يقابلان في النهاية بين طرفين: «عبد وسيد»؟ لكن المقابلة هنا لا تتم بين سيد ومسُود، بين مستغِل ومستغَل. وإنما بين طرف مسروق وآخر لا يسود حتى على نفسه، ما دام ما يكتبه لا يغدو ملكا لأحد، «وإنما للغة ذاتها، وتراثها».
ضياع الشخص بورخيس إذاً، هو ضياع في «اللغة وتراثها»، ضياع في لانهائية تُحول «أنا» المؤلف إلى لا شيء، وتجعلها تشك في نفسها وفي ما إذا كان ما يصدر عنها من أقوال وكلمات هو بالفعل تحت سلطتها Autorité، وأنها هي من ألفته، هي صاحبته ومؤلفته Auteur. لا عجب إذا أن ينتهي النص بالشك حتى في اسم موقعه، فلا ندري أي البورخيسَين هو كاتبه، أهو الأول أم الثاني: «لا أعرف الآن من منا كتب هذه السطور». ربما كان الكاتب هنا هو الهو المجهول الذي لا يسكن أيا منهما، وإنما يحيا في الكتابة، في اللغة وتراثها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى