الرأي

دبلوماسية الكرة

حسن البصري

عندما أتابع مباريات المنتخب المغربي في نهائيات كأس أمم إفريقيا للمحليين بالكاميرون، أستحضر حرص الجامعة الملكية المغربية على التواجد في التظاهرات القارية والقطع مع سياسة الكرسي الفارغ. حين يشارك المغرب في دائرة القرار ويصبح له صوت مسموع داخل الهيئات الرياضية القارية بعد سنوات من الغياب أشعر بذراع يقي فرقنا من غارات الخالدين فيها أبدا. عندما يحرز منتخبنا لقبا تسعد به وزارة الخارجية قبل وزارة الرياضة، ويصبح اللقب فتحا مبينا لا يقل قيمة عن فتح مقر قنصلية في العيون أو الداخلة.
حين رافقت بعثة الرجاء البيضاوي إلى الكاميرون سنة 2003، لتغطية وقائع المباراة النهائية لكأس الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم، ضد خصم عنيد اسمه القطن الرياضي، تجندت الحكومة للقاء ووضعت رهن إشارة الفريق طائرة عسكرية يلقبها اللاعبون الدوليون بـ «الميمة»، نظرا للعلاقة الوجدانية التي نسجوها مع طائرة تغني عن الانتظار في مطارات القارة السمراء.
نزلنا في ظهيرة يوم رمضاني حارق في مطار مدينة صغيرة تدعى كاروا، كان المطار مهجورا بلا عنوان وبلا حركة طيران تطرد عنه الكساد، وحده المدير هو الذي يختم الجوازات ويفتح الأبواب ويرشد الضيوف إلى جوف الطائرة لاستلام أمتعتهم، ويطفئ الأضواء.
لم يكن سكان مدينة كاروا المتاخمة للحدود الكاميرونية التشادية، يعرفون بلدا اسمه المغرب، فقد كانوا منشغلين بالقطن وبفريقهم «كوتون سبور»، وبما يجري في تشاد من مناوشات بين الفرقاء السياسيين، في حين تردد على مقر إقامة بعثة الرجاء في فندق أشبه بمخيم للاجئين، كبير كهنة المدينة ليعرض خدماته على رئيس الفريق عبد السلام حنات، ويعبر عن استعداده لتوزيع تعاويذ سحرية كفيلة بجلب الانتصار. ظل الرجل الملفوف في عباءة بألوان غير متناسقة، يعرض خدماته كنادل يقدم ما توفر لديه من وجبات، وحين فاز الرجاء باللقب هرول صوب الفندق مطالبا بأتعابه معتبرا نفسه صانع وصفة الانتصار.
هنا وفي هذه المدينة الكاميرونية الراقدة على قارعة الهشاشة، مسقط رأس وقلب عيسى حياتو الرئيس السابق للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم، أصر الرجل على زيارة مقر إقامة الرجاء ليتقاسم معهم حكاية فريق أنشأه مزارعو ضيعات القطن وأضحى صوت الكادحين.
حين فاز الرجاء بالكأس، رسم الرجل على محياه ابتسامة على سبيل الإعارة، وغادر الملعب دون أن يركض الأطفال خلف سيارته، فيما ظل المدرب الفرنسي هنري ميشال يلعن طقوس المنافسات الكروية في هذا البلد، ويقسم بعدم قدرته على التعايش مع الطقس والهشاشة، لكن بعد سنوات أصبح هنري مدربا للمنتخب الكاميروني، وأصبحت كاروا عاصمة للكرة في بلد الأسود غير المروضة.
لكن دبلوماسيا مغربيا يحمل صفة القائم بأعمال سفارة المغرب في بريتوريا، لم يتردد في الدعاء إلى الله كي يبعده عن الرياضة والسياسة وينجيه من كل زيارة، إلى أن حل المنتخب المغربي بجنوب إفريقيا سنة 2013 فقرر الخضوع لدروس إضافية في الكرة، وعلى امتداد مقام الفريق الوطني بين جوهانسبورغ وديربان شوهد «السفير» وهو ينتظر في بهو مقر إقامة المنتخب الطلعة البهية لرئيس الوفد الذي يوزع الدعوات بنفس الطريقة التي يوزع بها «بونات» قفة رمضان.
من حسنات الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم أنها أعادتنا إلى إفريقيا، وجسدت المعنى الحقيقي للدبلوماسية الموازية، حتى باستعمال أحمد «مكرر» بالرغم من سوابقه وحمله لعلامة «التسعين» أثناء قيادة الشأن الكروي، والاعتماد على مكونات السلك الدبلوماسي وانخراطهم طوعا في المشهد الكروي، ففي كل سفارة تجد موظفا في حالة تأهب قصوى، وكأنه يحمل صفة ملحق رياضي على غرار بقية الوظائف المرتبطة بالتمثيليات الدبلوماسية، كالملحق العسكري والثقافي.
لن ننسى قدرة الكرة على ترويض سفراء كانوا عنها غافلين، وإعادة الدفء للعلاقات الدبلوماسية بتعيين سفراء لا يخلفون الوعد مع التاريخ، ولا يهدرون ضربات الترجيح الحاسمة في ملاعب الدبلوماسية، فلا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يعزف حول جوانبه النشيد الوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى