الرأي

«أضواء المدينة» لا تنير ليلا

لم تنطفئ «أضواء المدينة»، لكن الشموع تخلي الأمكنة التي اكتسحتها أضواء كاشفة بدرجات عالية من أنماط التطور التكنولوجي. والمطربة الشابة التي كانت تتباهى بقوة صوتها، دونما الحاجة إلى ميكروفون، أزاحتها أصوات مصطنعة، تنوب فيها الآلة عن نبرات الصوت.
عندما اخترع متعهد المواهب الصاعدة حميد العلوي أضواء مدينته، على غرار «ناشئة الأدب» التي كان يرعاها الشاعر الراحل إدريس الجاي أو «المواهب» الغنائية التي اكتشفها الموسيقار عبد النبي الجيراري، كانت دار الإذاعة والتلفزيون المنتج الوحيد الذي تنفذ منه المواهب إلى الجمهور. ومن أجل أن يبتعد قليلا عن تلك الصفة الاحتكارية، راهن على تنظيم جولات فنية في ربوع البلاد. في كل مغامرة يختار أرنب السباق من الوجوه المعروفة، كي يمرر من خلاله أسماء واعدة تطأ خشبة المسرح وتواجه الجمهور للمرة الأولى.
فكرة جذابة، مركز الثقل فيها يقع على عاتق حميد العلوي وحده، إذ لم تكن هناك مؤسسات تجارية أو إشهارية ترعى مثل هذه التظاهرات، ولم يكن أحمد يسمع بتخصيص أي دعم للأعمال الفنية، وكان مسرح محمد الخامس على عهد مديره عزيز السغروشني، رجل الثقافة والإبداع والصرامة الإدارية، يتولى وحده رعاية بعض التظاهرات التي لا يكون الربح المادي هدفها.
لا بأس إذن فهذا الشاب الذي خلف المتعهد المغامر عزيز رفيق الفنانين آل على نفسه أن يكون المنتج والممول ورجل الإدارة ومحاور السلطة. لا تعوزه الكلمات المعسولة والابتسامة العارية. حتى إذا كان رصيد الحفل ضئيلا على غير المتوقع، يخفي خسارته ويدعو مشاركيه إلى حفل عشاء، وكله أمل في أن الحفل القادم سيكون أفضل، وما ضاع طموح كان وراءه إلحاح.
ينشغل بالتفاصيل الإدارية والتقنية، يسأل إن كان المسؤول عن استخلاص حقوق المؤلفين قد حضر لتسجيل حقوق الغير، بعد أن يكون أنهى ترتيبات حضور فريق أمني، ويدلف إلى أقرب دكان يهاتف منه الأصدقاء في الإذاعة والتلفزيون وبعض الصحافة، ألا ينسوا بث وصلات إشهارية عن موعد ومكان الحفل القادم. ثم يلتفت إلى أعضاء فرقته إن كان أحدهم يعاني من خصاص ما، بما في ذلك تزويد أسرته بمستلزمات احتفالات الأعياد.
لا يكف عقله عن الدوران، وبين مشروع وآخر يكون بصدد إعداد بروفات مشاريع أخرى. مثل «مقامر» فني يراهن على كل الاحتمالات. وقبل وضع اللمسات الأخيرة على برنامج الحفلات واختيار المشاركين واستمالة موسيقيين لدعم تجربته، يخطو في اتجاه «سويقة» الرباط، لا يتبضع الخضر والفواكه ومستلزمات البيت، بل يرخي السمع إلى الأصوات الموسيقية التي تنبعث بين الأزقة. يسأل عما يقتنيه الجمهور من الأغاني وعن «رأس السوق» الذي يستأثر بإعجاب الجمهور. فقد كانت تلك طريقته في القيام باستطلاعات ميدانية، يعرف بعدها اتجاه الريح والأذواق.
لكنه لا ينام ليلا، يجول على الملاهي التي تقدم وصفات غنائية تهفو إليها الأفئدة. فقد يكون من بين «منشطيها» نجم مغمور ينتظر أن تسلط عليه «أضواء المدينة» بعضا من كشوفاتها. ولا ينسى بين الفينة والأخرى أن يسأل الأصدقاء إن صادفتهم في الطريق مواهب واعدة، من دون الاقتصار على مدينتي الرباط والدار البيضاء.
عندما افتتن الجمهور بأداء المطربة الرائعة نعيمة سميح، أدرك حميد العلوي أن مصدر قوتها يكمن في نبرتها الحزينة وقدرتها على نقل المعاناة إلى كل بيت. وعلى منوالها بحث عن مطربة ثانية تشكو همومها إلى الجمهور. فجاء اكتشاف المغنية فاطمة مقدادي التي شكت مأساتها إلى «سيد القاضي» ومن الصدف أن كاتب الكلمات الذي طوح بالمطربة نعيمة سميح إلى فوق، هو نفسه الذي كتب للمطربة فاطمة مقدادي. إنه الزجال علي الحداني الذي افتقدته كراسي فضاء مقاهي شارع محمد الخامس في الرباط.
كنا أربعة في جلسة واحدة، فاطمة مقدادي وحميد العلوي وصحفي لبناني، عمل رئيس تحرير «الوطن العربي» اقترح الأخير على مقدادي أن تغني باللهجة المصرية أو الشامية، ورد العلوي بأن مجال المنافسة لا يكون إلا من خلال التشبث بحرفية الأغنية المغربية بإيقاعها وعاميتها وفصحاها. ثم صدحت مقدادي تنادي «صحايبي.. صحايبي» التي كانت مثار إعجاب. ومع مرور الأيام والسنوات تحول «الصاحب» أي الصديق إلى رحاب الأخوة. وانبعث صوت دافئ بنبرة قوية، فقد غنت المطربة لطيفة رأفت «خيي» على وزن «صحايبي» التي كانت بدورها من تأليف علي الحداني.
سيذهب ولع الاكتشاف بالمتعهد حميد العلوي إلى أن يطرق أبوابا أخرى، فقد اقتبس من مغامرة مبدع آخر يدعى المحجوب يقيم في الدار البيضاء، فكرة إنشاء أستوديو لتسجيل الأغاني والأعمال الموسيقية والفنية. كان يخطو في اتجاه تعبيد الطريق أمام شركات الإنتاج الخاصة. وسبق كثيرين إلى إبرام عقود مع مؤسسات فنية مشرقية لتسويق إنتاجاتها داخل المغرب.
في أكثر من مناسبة فكر العلوي في مغامرة النشر، ضمن مشروع إصدار مجلات فنية، وحين بدأت أضواء مدينته المتلألئة تخفت حول الاتجاه إلى عوالم أخرى. لكن دقات قلبه التي كانت تخفق لدى اكتشاف المواهب، باتت اليوم تقاس بتداعيات أكثر من عملية جراحية على القلب. غاب الأصدقاء وصار اكتشاف المواهب يخضع لأهواء ونزوات على إيقاع ما يطلبه السوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى