
بقلم: خالص جلبي
لم يتفطن السياسيون المهرجون إلى أن العالم تحولت إحداثياته من القوة إلى الفكر، ولم تشعل النار النووية إلا أدمغة العلماء! واستخدم هذا السلاح النوعي مرة واحدة، ولم يتكرر مع مرور العالم في أعظم الفترات حلكة وخطرا في كوريا عام 1950 وكوبا 1962 والشرق الأوسط 1973. ومن فكر في استخدامه مثل «مك آرثر» في الحرب الكورية، كلفه أن يستقيل من منصبه، فالسلام العالمي أهم من حماقة جنرال، وكما يقول «مالك بن نبي» إن القوة ألغت القوة.
أو كما يقول «جودت سعيد» إن العلم هو الذي دفع العالم إلى الزاوية الأخلاقية، مرغما كي يولد محررا من علاقات القوة. وحين يتحول الدين إلى علم يصبح عالميا، كما في حبة الأسبرين وأشعة رونتجن والتعقيم الجراحي. وخذلت الأصنام النووية أصحابها، وهو النادي الذي يودعه أصحابه ويعلن إغلاقه، تدخله باكستان وإيران كمن يذهب إلى الحج والناس قافلة من عرفات في 11 من ذي الحجة، فقد تحولت إيران من الثورة إلى الدولة، وعندها استعداد أن تستقبل طغاة مثل تشاوشيسكو، قبل موته بأربعة أيام، فما زال الغرام بالقوة مثل أقداح السكارى.
حين واجه «المسيح» بيلاطس تقابل في الواقع «عالمان»، كما يقول الفيلسوف الألماني «شبنغلر»، فسأله: «إن كان ملك اليهود؟»، أجاب: «أنت تقول ذلك؟»، وختم: «مملكتي ليست من هذا العالم». ومعنى هذا الكلام أن العالم مؤسس على القوة، ولم يأت بعد عصر الأنبياء، وعهد الإنسان المحرر من القوة، وما زلنا على ظن الملائكة نفسد في الأرض ونسفك الدم الحرام، ولم يتحقق بعد علم الله فينا، ولم يولد العقل بعد. وإذا كان رب البيت بالطبل ضاربا، فشيمة أهل البيت الرقص على طبل أمريكا ومن شايعهم من ذوي السلطان الأكبر. يسحرون أعين الناس ويسترهبوهم بسحر عظيم. وإذا كانت أمريكا تمتد بأذرع الإخطبوط في 63 قاعدة عسكرية على امتداد قطر الأرض، وتشرب ربع البترول العالمي وهي 5 في المائة من سكان العالم، وتثقب السماء مثل النمرود، وتسحر الناس بحبال بعصي القوة؛ فلماذا لا يأخذ الطغاة الصغار مشروعيتهم من هبل الأعظم؟ مع هذا فالمشكلة ليست هنا، وليس من أحد له سلطان على الإنسان إلا بقدر ما يسمح بذلك. ولو كان الشيطان بذاته. وأول سورة نزلت من القرآن لفك هذا السحر أن الطغيان يكسر بعدم طاعته، وأي قانون يمكن كسره برفض طاعته، كما فعل غاندي مع قانون احتكار بريطانيا للملح، فجمع الأتباع، وذهب إلى البحر، واستخرج الملح وكسر القانون. ولكن العرب مصابون بالغشاوة في استيعاب مثل هذه الأساليب لكسر قوانين ظالمة، فلم يفهموا ويستوعبوا بعد أن فك سحر الطغيان لا يتم بقتل الطاغية، بل بالمحافظة عليه، وعدم طاعته. كان ذلك في الكتاب مسطورا. وحين يتبخر الوعي، وتزور إرادة الجماهير في صناديق الانتخابات في الدول العربية، فسببه غياب الوعي، فلا نفع في صناديق انتخابات، بينها وبين الوعي مسيرة ثلاث سنوات ضوئية. ولا يمكن لأي ديكتاتور أن يعتلي رقبة شعب واع، ولو جاءت ميركل «المستشارة الألمانية» إلى رواندا، وذهب طاغية عربي محل ساركوزي «الرئيس الفرنسي الأسبق»، واستبدل بلير بقصي، فلن تتغير الصورة كثيرا، بل لو بعث فرعون بسماتيك الأول وصدام من القبور، واستبدل الواحد بالآخر أو برئيس كندا، ما تغيرت الصورة كثيرا، فيمكن لصدام أن يصبح ديمقراطيا، وأن ينقلب رئيس وزراء كندا وبريطانيا طاغيتين مريدين، فقط بتغير الظروف الاجتماعية التي تفرخ جراثيم الاستبداد، أو تمنع ولادتها.
إن الفيزياء تقول لنا؛ إن إلقاء عود ثقاب في بركة ما تطفئه، وفي برميل بنزين يشعله. ولو عرض الماء والحليب والبارود والشمع للحرارة نفسها، تبخر الماء وفار الحليب وانفجر البارود وذاب الشمع، ونحن نتفجر في العراق، ونذوب في سوريا، ونفور في لبنان.
لقد اقترح (إيمانويل كانط)، فيلسوف التنوير في كتابه «نحو السلام الدائمZumewigen Frieden»، لقد فشلت حتى الآن عصبة الأمم المتحدة في تطوير العالم، كما ماتت الأمم المتحدة كما صرح بذلك بوش، الذي وصفته وزيرة العدل الألمانية أنه يذكرها بهتلر، فكلفها هذا منصبها. وأكبر مظاهر موت هذه المؤسسة العملاقة حق الفيتو فيها، الذي يصادر إرادة العالم في مجلس إجرامي خماسي يغتال عقل العالم وإرادته ويعيق ولادة العدل، فيغيب الأمن وتتبخر الحريات ويتحول العالم إلى كازينو قمار وزقاق بلطجية. مع هذا فقد طلعت الشمس من مغربها، ويلوح في الأفق فجر جديد من الاتحاد الأوروبي، قام على كلمة السواء، وليس على فتوحات نابليون وهتلر، ولا تحت شعار ألمانيا فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع، وهو ما يدفع تركيا إلى أن تقول لأوروبا على صورة معكوسة جدا لصورة الفتح العثماني: تعالوا وافتحونا، عفوا ضمونا للاتحاد الأوروبي، وأوروبا تتمنع، وينجو رأس أوجلان الكردي، بعد أن لاح حبل المشنقة فوق رأسه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.
وأما عندنا فحرب أهلية، وقطع رؤوس بالسواطير، وتكفير بالجملة والمفرق، أو ديكتاتوريات لا تغيب عنها الشمس، أو ريحا حمراء، أو خسفا للعقل إلى عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق، أو مسخا لجماهير تهتف: «بالروح بالدم نفديك يا أبو الجماجم»، وهو هتاف كلف قتل الكثير في غزة في ذكرى ضخ الدم في صنم ياسر عرفات الميت. والزلزال العراقي لم يبق في العراق، وهي مسألة وقت لا أكثر، كما يعرف علماء الجيولوجيا عن طبيعة الزلزال وتسونامي.
وفي مؤتمر البحرين الذي انعقد في 29 أكتوبر 2007م، كان الفريق اللبناني يرى أن أمريكا هي مصيبة العالم، وأما الفريق الشيعي فكان يرى أن التكنولوجيا النووية بها الخلاص، وأما قسم من الفريق السني فرأى أن محاكم الصومال الإسلامية وطالبان هي مصابيح الظلام ونماذج الهدى، فبهداهم اقتده.
إن من يحضر قمم الفكر ويصل إلى هذه الخلاصة ليس أمامه سوى توديع عالم العقل، والاعتكاف في مكان يعض فيه على أصل شجرة، حتى يدركه الموت وهو على ذلك.



