شوف تشوف

الرأي

حيلةٌ جديدة لبعضِ «الإسلام الحزبيّ»

عبد الإله بلقزيز
في زمنٍ مضى، نادى العَلمانيّون بوجوب الفصل بين الدولة والدين، السلطة السياسيّة والسلطة الروحيّة، من أجل إقامة نظام الدولة الوطنيّة الذي يشتقّ شرعيّته من الجماعة السياسيّة (=الشعب).
وكان الإسلاميّون، منذ محمّد رشيد رضا وتلامذته الإخوانيّين، هم من عالنوا تلك المناداة اعتراضًا فتمسّكوا بمبدإ المماهاة بين الدولة (=السياسة) والدين، وبنوا عليها برامجهم السياسيّة المنتظمة تحت شعار/ هدف «الدولة الإسلاميّة»: الدولة التي سيكون عليها، في نظرهم، أن تستعيد شخصيّتها «الأصل» فتكون دولة الإسلام التي تطبّق أحكام الشريعة، وتشتقّ قوانينها من الدين. كان ذلك فصلاً مديدًا من الجدل والصراع، عشناهُ ثقافيًّا وسياسيًّا، لما يزيد عن القرن، فاستهلك منّا أجيالاً أربعة انقسمت قواها على حدود الأطروحتيْن، واستعر النزاعُ بينها ليصل، أحيانًا، إلى حدود الصّدام وما استجرّهُ من نتائج فادحة على الأمن والاستقرار.
اليوم، يبدو أنّ الصورة تختلف، والشعارات تختلف أو تتعدّل، ليتشكّل مشهدٌ جديدٌ من القول والتعبئة الدائرة على الموضوع هذا. بيانُ ذلك أنّ بعضَ «الإسلام الحزبيّ» اهتدى، اليوم، إلى حيلةٍ جديدة ينتحلها لنفسه في مسعاهُ الدائب إلى استثمار الرأسمال الدينيّ في معركته من أجل حيازة السلطة. والحيلة التي نعني هي استعارتُه شعار العلمانيّين نفسَه وتكثيفَ استخدامه في العمل التعبويّ كما في المطالَبات المُعْلَنَة. وما كُلُّ «الإسلام الحزبيّ» فَعَلَ ذلك – لئلا نعمِّم على غيرٍ بيّنة – وإنّما أتى ذلك مَن له باعٌ في الپراغماتيّة السياسيّة (بعض فروع «الإخوان المسلمين» تحديدًا)، فيما ظلّ «الجهاديون» والسلفيّون، مثلاً، متمسّكين بمطلب المماهاة بين الدينيّ والسياسيّ لا يبرحونَه. ولم يَجْنح مَن جَنَح من الإسلاميّين الپراغماتيّين إلى هذا الاستبدال إلاّ بعد أن تبيّن له ما فيه من عوائدَ جزيلةٍ على دعوته ومشروعه السياسيّ، وليس لأنّه اقتنع بوجاهة مطلب العلمانيّين كما يوحي بذلك كلُّ من تأثَّر من الإسلاميّين الحركيّيتن العرب بفهلوة «الإسلام التركيّ» ممثَّلاً في «حزب العدالة والتنميّة».
لا يعني الفصل بين الدين والدولة، عند الإسلاميّين، ما يعنيه عند العلمانيّين؛ وإن كان هؤلاء وأولئك يجتمعون على شعارٍ حَمَّالِ أوجُه؛ فبينما عَنَى العلمانيّون بالفصل طريقةً لمنع «رجال الدين» من التدخّل في شؤون الدولة والسياسة، يعني به الإسلاميّون -عكسًا – طريقةً لمنع الدولة من التدخل في الشأن الدينيّ وترْكهٍ لـ»أهله»؛ أي لهم هُمْ الذين ينصّبون أنفسهم نَطَقَةً رسميّين باسم الدين.
ولن يكون من شأن هذا الاستبدال، عند الإسلاميّين، أن ينهيَ النزاعَ حول المسألة بين الفريقيْن، كما قد يُظَن، بل سيجدّد النزاعَ ذاك ما إنْ يُفصِح أيٌّ منهما عن تأويله للكلمة المفتاحيّة في الشعار: «الفصل». عندها لن يَرْحَم أحدٌ أحدًا لأنّ النتيجة هي أن يُلغيَ الواحدُ منهما الآخرُ في المطاف الأخير.
والحقُّ أنّ موطن الخلَل، في هذه المسألة، ليس في هذا التأويل أو ذاك، وإنّما في الشعارِ نفسه و، قُل، في الشعار الذي يَقْبل تفسيرات متبانية. هذا ما لم يَلْحظْه العلمانيّون عندما بدؤوا ينادون بالفصل بين الدولة والدين، متبنّين أطروحات العلمانيّين الفرنسيّين – ذوي المنزِع اليعقوبيّ – من دون أن ينتبهوا إلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة نفسَها حمَلت الشعار عينَه في فرنسا في القرن التاسع عشر، من أجل احتكار الشأن الدينيّ ومنع الدولة من التدخّل فيه. ولا يفعل إسلاميّونا، اليوم، بهذا الشعار إلاّ ما فعلتْه الكنائس قبلهم، من أجل انتزاع الشأن الدينيّ لهم والاستثمار بالرأسمال الدينيّ لبناء سلطةٍ موازية لسلطان الدولة. الفارق الوحيد أنّهم تأخّروا في الانتباه إلى الفوائد الناجمة من شعارٍ كانوا يشتدّون في معارضته لمجرّد أنّ حَمَلَتَهُ علمانيّون.. كيف السبيل إلى الردّ على هذه الحيلة الپراغماتيّة؟ لا مندوحة عن العودة إلى التصوّر الذي أنتجه الفكر الحديث في المسألة، والذي عليه كان مبْنى الدولة الوطنيّة الحديثة: التصوُّر الذي فكَّ الاشتباكَ التاريخيَّ المديد بين السياسيّ والدينيّ، فوضعَ حدًّا لاستغلال الدين باسم السياسة، أو لاستغلال السياسة باسم الدين.
إنّه (التصوّر) الذي يعيد تعريف الدين بوصفه مُلكيّة جماعيّة للأمّة جمعاء لا تَقْبَل التفويت لفريقٍ اجتماعيّ واحد منها.
ولمّا كانتِ الأمّة ممثَّلةً في كيان سياسيّ هو الدولة؛ ولمّا كانت الخشيةُ كبيرةً من أن تستوليَ فئةٌ مّا من المجتمع على هذه الملكيّة فتسخِّرها لمصلحتها، تَرتّب على ذلك أن تبسُط الدولةُ سلطانها على الشأن الدينيّ، باسم الأمّة، لقطع الطريق على الاستثمار الخاصّ فيه. هكذا يكون الدين للمؤمنين كافّة، وتكون الدولةُ للمواطنين كافّة.
مرّةً أخرى، على المرء أن لا يخلط بين معنى الدولة ومعنى النظام السياسيّ ليفهم، على الحقيقة، لماذا كانت هذه الرؤية أساس الهندسة السياسيّة لنظام الدولة الحديثة، وأساس السّلم المدنيّة والأمن والاستقرار فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى