
كان اختراع غولييلمو ماركوني ثورة بكل ما في الكلمة من معنى، حيث نقل عالم البشر إلى طور جديد من أطوار التقدم الحضاري المبهر، خلال سنوات القرن العشرين، وهي الحقبة التي بدأت بالفعل باكتشاف الاتصال اللاسلكي، ثم استخدام هذا الاكتشاف الهائل في عمليات البث المسموع بالراديو، وبعد ذلك البث المرئي عبر التلفزيون.
ثم تطورت الأمور إلى إمكانات البث عن طريق الأقمار الاصطناعية. وُلِدَ غولييلمو ماركوني Guglielmo Marconi (1937-1874) في مدينة بولونيا بإيطاليا، في أسرة بالغة الثراء، حيث كان بوسعه أن يتعلم في بيته، وعندما بلغ العشرين من عمره اطلع على تجارب العالم هينريش هرتز التي قام بها قبل ذلك بسنوات، والتي أثبتت وجود موجات كهربائية مغناطيسية غير مرئية، وهذه الموجات تتحرك في الهواء بسرعة الضوء.
آمن غولييلمو ماركوني بأن هذه الموجات يمكن استخدامها في إرسال إشارات صوتية إلى مسافات بعيدة، دون حاجة إلى أسلاك، وهذا يجعل الاتصال أسهل من استخدام التلغراف السلكي، فعن طريق هذه الموجات يمكن أن يبعث رسائل إلى السفن في المحيط.
واستفاد ماركوني من ممتلكات عائلته الكبيرة المساحة، ليجري تجاربه في إرسال الموجات اللاسلكية في مكان خاص لا ينازعه فيه أحد، وبعد سنة واحدة من العمل الشاق، كان قد صنع أجهزة معقدة، يمكنها أن تذيع وتستقبل وتغطي كل مساحة ممتلكات العائلة.
ويعد ماركوني رائد الاتصال اللاسلكي الذي سيفضي إلى ابتكار جهاز الراديو. وبينما كان ماركوني مقتنعا بأهمية ما توصل إليه خلال تجاربه، لم تأبه به الحكومة الإيطالية، ولا أوساط رجال الأعمال وأرباب الشركات، إذ كان ردهم على طلبات ماركوني الاستثمار في هذا الاختراع: ما الجدوى من الاتصال اللاسلكي، ما دام الاتصال السلكي موجودا؟! لذلك قرر الانتقال إلى إنجلترا، مستفيدا من أصول والدته الإيرلندية، في محاولة منه للبحث عن الدعم لاختراعه الجديد.
أولى نجاحات الاتصال اللاسلكي
استطاع غولييلمو ماركوني بالفعل أن يحقق في لندن نجاحا كبيرا، حيث اهتمت الحكومة وهيئة البريد والجيش بالاستخدامات العملية، التي يمكن جنيها من وراء هذه التكنولوجيا الجديدة خلال عدة سنوات، وكان ذلك بعد أن قام ماركوني بأول عرض للبث اللاسلكي بين بريطانيا وفرنسا في عام 1899، وبعد هذا العرض أصبح محط أنظار الجميع. وخلال هذه الفترة انشغل ماركوني في إقامة شركة تعتني بمخترعاته سماها شركة (ماركوني للاسلكي المحدودة).
في عام 1900 كان قد أجرى تجارب لاسلكية ناجحة على سفن تابعة للبحرية البريطانية، كما نجح بعد ذلك في تجربة بث لاسلكي باستخدام شيفرة مورس عبر المحيط الأطلسي، فقضى بذلك على كل الشكوك التي كانت تحوم حول نجاح فكرته، ونال بعد هذه الإنجازات الباهرة شهرة عالمية فاقت كل الحدود. كان الكثير من الناس حتى في الأوساط العلمية يعتقد بأن هذه الفكرة مستحيلة، واعتبروا أن كروية الأرض لن تسمح أبدا بتحقيق أي اتصال لاسلكي لمسافات طويلة.
استطاع غولييلمو ماركوني رفقة مساعديه سنة 1901 القيام بإرسال حروف في اتصال لاسلكي انطلاقا من إنجلترا باتجاه كندا، حيث اعتبر أول اتصال لاسلكي في التاريخ. هذا الحدث الكبير أرسى أسس نظام للاتصالات اللاسلكية، بفضل الجهاز الذي اخترعه غولييلمو ماركوني، الذي تم اعتماده بين البلدان والقارات البعيدة، وبين السفن المبحرة، رغم طول المسافات بأقل جهد وتكلفة، وبسهولة فائقة. لكن كان لغرق السفينة الشهيرة تيتانيك الدور الكبير في إبراز أهمية اختراع ماركوني وفائدته، حيث ظل اثنان من المسؤولين عن البث على ظهرها يرسلان نداءات الاستغاثة، ما مكن من إنقاذ بعض الركاب، وتبعا لذلك صدرت قوانين تفرض إلزامية توفر السفن على أجهزة لاسلكية للاتصال.
نهاية حياة حافلة بالمنجزات العلمية
حاز غولييلمو ماركوني على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفة مع المخترع الألماني كارل براون، بفضل اختراعه للاتصال اللاسلكي سنة 1909، وتقديرا لإسهامهما في تطوير التلغراف اللاسلكي. واصل ماركوني تطوير اختراعه لأطول مسافة ممكنة عبر القارات عن طريق استعمال شيفرة مورس، وكان هدفه النهائي من ذلك الوصول إلى نقل الصوت لاسلكيا لمسافات طويلة، هذا الأمر الذي تحقق له سنة 1915، والبث الإذاعي وتطوير موجات الإرسال، خاصة القصيرة جدا، ثم أخيرا إقامة أول شبكة عالمية للبث سنة 1927.
أسهم ماركوني إضافة إلى ذلك في تطوير جهاز الرادار، وواصل تأسيس العديد من محطات الإرسال اللاسلكي حول العالم. لكن براءة اختراعه التي حصل عليها في إنجلترا أصبحت موضع نزاع قضائي طويل بين ماركوني والمخترع الشهير نيكولا تسلا، حيث اعتبر هذا الأخير أن أبحاثه في مجال الاتصالات اللاسلكية كانت سابقة عن ماركوني.
وانتهى النزاع في الأخير بحكم قضائي يقر فيها بتجريد ماركوني من ملكيته لبراءة الاختراع سنة 1943، لكن في هذه الفترة كان ماركوني قد توفي، وظلت مع ذلك شركته الخاصة تُحْكِمُ سيطرتها على صناعة الاتصالات اللاسلكية حول العالم. اختتم ماركوني حياته الحافلة بالإنجازات العلمية الباهرة واختراعاته المهمة بنهاية سياسية مخزية، حيث كان من أشد أنصار الزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني، وعاد إلى إيطاليا من أجل أن يقوم بحملة في أوروبا وغيرها من البلدان، مستغلا شهرته العلمية للدفاع عن النظام الفاشي في إيطاليا وغزو بينيتو موسيليني للحبشة سنة 1935.
ويسود الاعتقاد لدى عامة الناس بأن ماركوني مخترع جهاز الراديو، وبالفعل لا يمكن إنكار دوره الكبير في هذا الاختراع، لكن الحقيقة أنه استفاد مثل غيره من السابقين الذين عملوا كل من جهته للوصول إلى جهاز الراديو، كما هو معروف الآن. وأن اختراعه الأساسي والفعلي هو الاتصال اللاسلكي الذي يعد رائدا له، وأحد المخترعين الأساسيين في القرن العشرين الذين فتحوا صفحة جديدة في تاريخ البشرية.
نافذة:
استطاع غولييلمو ماركوني رفقة مساعديه سنة 1901 القيام بإرسال حروف في اتصال لاسلكي انطلاقا من إنجلترا باتجاه كندا حيث اعتبر أول اتصال لاسلكي في التاريخ هذا الحدث الكبير أرسى أسس نظام للاتصالات اللاسلكية





