شوف تشوف

الرأي

هل كان عاد وثمود عمالقة؟ جدلية الأرض والنصوص

وصلتني بالأنترنت صور عن قوم (عاد وثمود) من جماجم وعمود فقري وهياكل بشرية. ليس هذا هو المهم بل حجم البشر الواقفين بجنبهم وكذلك آلات الحفر؟ فقد ظهر حجم الجمجمة أكبر من حجم الرجلين الواقفين حذاءها؟ كما أن آلة الجرف الضخمة ضاعت أمام حجم الهيكل؟ قالت لي زوجتي المغربية التي ذهلت من المنظر ما رأيك؟ وتابعت هل هي حقيقة أم مفبركة؟ جوابي طبعا أنها من لعب الفوتوشوب.
وحاليا بلغت السينما درجة من التزويق واللعب بالمناظر، أن أظهرت انشقاق البحر وكأنه أمامنا، والديناصورات وهي تلتهم البشر، والبحر وهو يبتلع مدينة لوس أنجلس في كاليفورنيا.
هنا نحن أمام ظاهرة تحتاج إلى التحليل. فلماذا يحرص الناس على تعميم هذه الصور في النت؟
حاليا هناك طوفان من المعلومات والوعاظ الشعبيين والشكاكين وأصحاب الدكاكين السياسية. يكفي أن تفتح اليوتيوب لتغرق في محيط لا نهاية لشواطئه؟ فوجب وضع الفلترة العقلية لما يرى الإنسان ويسمع.
ليست فقط هذه الصور التي يمكن فضحها بسهولة، بل هناك تناقل معلومات مغلوطة أو مفبركة أو مضخمة أو محرفة، من كل فاكهة زوجان.
لماذا نشر هذه الصور الآن بالتحديد؟ قلت لزوجتي هذه ليست جديدة علي؛ فلقد شاهدتها منذ فترة، حتى جاءني من كشف طريقة التلاعب بالصورة، ولكن أصحاب (النصوص) يريدون نسبها إلى أحاديث يجب أن (تراجع) أن خلق آدم كان أطول من عمارة شاهقة.
ولكن المدهش هو بالأفلام التي تنتج من مكان لتروج في مكان، وهي في الصراع السياسي شيء مذهل؛ فالحرب السياسية أحيانا تدار بالفؤوس، ولكن في كثير من الأحيان باللعب بالرؤوس.
ما معنى أن البشر الأقدمين كانوا عمالقة؟ هكذا يروج البعض أن قوم عاد وثمود كانوا عمالقة. فيما يتعرض ابن خلدون في مقدمته لمثل هذه الأفكار ويقول: إن الحنايا في بقايا قرطاج، وأهرامات مصر، دفعت البعض إلى الظن أن من أقامها هم قوم من العمالقة، ليصل إلى تقرير (قانون) هام في علم الاجتماع، ذي ست زوايا في اعتماد الإخبار ليس على النقل، بل النقد والتحري.
قال الرجل في مقدمته (اعلم أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والذاهب بالحاضر؛ فلا يأمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وهو ما وقع لكثير من أئمة النقل والتفسير).
ومنه نفهم البعد الاستراتيجي في الآية المفتاحية الموجودة في سورة العنكبوت، أن علينا ليس البحث في (الكتاب) بل السير في الأرض (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).
إذن هذه الصور من عمالقة عاد وثمود يجب أن لا ينظر لها من خلال النصوص، بل من خلال البحث الأنثروبولوجي (علم الإنسان) وتفقد طبقات الأرض. هل فعلا ثمة هياكل بقدر ناطحات سحاب أم هو (فرية) علمية تكاد السموات تنشق منها وتخر الجبال.
وبالمناسبة فإن غالبية من (ساروا في الأرض) كانوا من الغربيين، ولم يكونوا من العالم الإسلامي، وقديما كان العكس هو الصحيح، كما نعرف من (ابن بطوطة) في كتابه عجائب الأسفار أو (القلقشندي) ومن رسم خرائط العالم (الإدريسي) وابن خلدون وعشرات من الباحثين، أما العالم الحالي فقد تم تشكيله بعد أن خرج العرب من لعبة التاريخ، وبذلك صنع العالم المعاصر الذي نعيش فيه من بناة لا علاقة لهم بالعالم الإسلامي عموما.
(داروين) مثلا ركب سفينة البيجل لينتهي بفكرته عن الخلائق وكيف تمت. (هومبولدت) الألماني عس في غابات الأمازون ليكتشف الخلائق، و(ماركس) كشف قانون فائض القيمة في الاقتصاد، و(فرويد) عالم ما تحت الشعور، و(فون بابن) قانون ضغط البخار، و(طوريشيللي) الضغط الجوي، و(ماكس بلانك) ظاهرة إشعاع الجسم الأسود وانتهاء بقوانين ميكانيكا الكم، و(آينشتاين) النسبية الخاصة والعامة، و(دونالد جوهانسون) الأنثروبولوجي هو من عس في حرارة الحبشة المخيفة، في مثلث عفار، ليهتدي إلى هيكل لوسي التي عاشت قبل 3,2 مليون سنة، ليس هذا فقط بل أين المختبر الذي يقول إن هذا العظم عمره ثلاثة ملايين من السنين أو ثلاث سنوات. هذه أيضا تقنيات طورها الغرب باجتهاد ومتابعة؛ بل حتى الصور التي تعمم هي من خلال النت، الذي هو مشروع أمريكي بامتياز، وحاليا تكتب مجلة در شبيجل الألمانية، عن جيل الشباب الجدد في (وادي السيليكون) قريبا من سان فرانسيسكو أنهم سيكونون أباطرة الحكومة العالمية القادمة، بتطوير نظام المعرفة والاتصالات بحيث ينتهي احتكار الحكومات لصالح خبراء الديجتال.
هذه إذن هي طبيعة العصر الذي نعيش فيه. وما نعرف عن هياكل البشر حتى اليوم هو ما كشفه علماء الأنثروبولوجيا (وهو أيضا علم حديث تطور من رحم علوم أخرى) أن الإنسان أصبح له على وجه الأرض بشكله المستقر حاليا، والذي ننتسب إليه، وسمي جدنا آدم تيمنا به (الإنسان العاقل العاقل) ربما مائتي ألف سنة يزيد وينقص، ولكنه هو الشكل (المودرن) المتقدم وقبله مرت أشكال أخرى ولكنها اختفت جميعا.
ما أريد الوصول إليه أننا إذا أردنا الطيران إلى المستقبل؛ فيجب أن نركب جناحين من العلم والسلم. بكل أسف الوسط العام من الثقافة شاحب يعاني من فقر دم، ولا يزيده الوعاظ الشعبيون إلا ضلالا. وما مناظر الاقتتال والتفجيرات حتى في رمضان إلا من أزمة الفكر المختنق. أملي كبير أن يعتنق مثل هذه القبسات شباب ينظرون إلى مستقبل أفضل بعقل تنويري مؤمن متسامح يبني قاعدته المعرفية طبقا عن طبق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى