شوف تشوف

الرأي

البخل محظور على السفراء

أحضروا قائمة بأسماء سفراء مقترحين إلى بعثات دبلوماسية في الخارج، فواجههم الحسن الثاني بالقول: إياكم أن يكون من بينهم بخلاء. أدرك الساهرون على إعداد القوائم أنه يجب إضافة صفة جديدة إلى خصائص ومعايير الانتساب إلى السلك الدبلوماسي، محورها الكرم وحسن الضيافة وعدم التقتير. وكان إذا استعصى على بعض مراكز النفوذ شطب اسم من القوائم، وصفوه بأنه بخيل. إذ لم يكن يوجد في استمارات التحقيقات والاقتراحات بند يتعلق بتوصيفات الجاحظ.
وكانوا إذا تعذر عليهم غضافة شخص إلى قوائم المترشحين أثنوا على وفادته وكرمه ونبله، من دون إغفال أن بعض الأسماء يتم تمريرها لتلقي العلاج أو رعاية أبناء يدرسون في الخارج، وارتباطهم بصداقات مع مسؤولين في البلد المضيف.
حكى لي دبلوماسي مخضرم أنه زار سفارة المغرب في القاهرة يوم كان الزعيم السياسي عبد الخالق الطريس يتولى مسؤوليتها في السنوات الأولى لاستقلال البلاد، فوجدها تضج بالحركة والزوار من مختلف الفئات، مدنيين وعسكريين وفنانين ومثقفين. اعتقد في البداية أن مقر السفارة يستضيف حفلا رسميا، وعندما توالت الزيارات، سأل السفير الطريس الذي قضى أقصر فترة وزيرا للعدل، إن كانت صداقاته تعود إلى فترة إقامة رواد حركات التحرير في الدول المغاربية بالقاهرة. فرد أن نخب المصريين يروق لهم الحديث باللغة الفرنسية وتذوق الطعام المغربي والانغماس أكثر في شؤون السياسة، لأن الطريس كان خطيبا مفوها ذا إلمام بالأدب والسياسة والتاريخ، فقد كان يجذب محاوريه، بمن في ذلك من كانوا يناوئون النظام المغربي، إلى جلسات حوارية تنتهي بإشباع شهوة البطون بعد امتلاء العقول. وروى كيف أن شخصيات مصرية رفيعة لم تتقبل فكرة أن سفير المغرب في القاهرة لا يتحدث بالفرنسية. وكان على الطريس في كل مناسبة أن يشرح لزواره تأثير الاحتلال الإسباني على ساكنة شمال البلاد، ولم يفته الاستشهاد بأن الطبخ الأندلسي نزح مع الفارين من بطش محاكم التفتيش وطرد قوافل المسلمين من الأندلس الذين استقروا في غالبيتهم في تطوان وفاس والرباط.
ولأن بخل اليد لا ينفصل عن بخل الضيافة، كان الطريس يشيد بدور مصر التي فتحت أذرعها أمام بطل الريف عبد الكريم الخطابي، وأمام رواد الحركة الوطنية، أمثال علال الفاسي والشيخ المكي الناصري وقيادات الثورة الجزائرية. فقد كان يؤثر استضافة المبادئ على غيرها، ثم انصرمت عقود تولى بعدها أحد تلامذته سفارة المغرب في القاهرة في شخص الدبلوماسي فرج الدكالي، وعلى نفس الخط يوجد اليوم سفير من أبناء شفشاون العريقة اسمه محمد سعد العلمي، كما لو أن دورة الزمن تعود إلى نبعها.
إلى جوار مصر، كانت السفارة المغربية في طرابلس، حتى في عهد العقيد الليبي معمر القذافي، أشهر بعثة في «جماهيريته» يقصدها زعماء الثورة وكبار الشخصيات من غير مناسبة، حتى أن العقيد الذي كان يعرف بتردد رفاقه اقترح على أحدهم، من بين أشد منافسيه، تعيينه سفيرا لبلاده في المغرب. ويقال، والعهدة على من روى، إن إبعاد الشيخ المكي الناصري عن سفارة المغرب في ليبيا كان بسبب حفل غداء غابت عنه المأكولات التقليدية المغربية، حيث كان الحسن الثاني توقف في طرابلس وهو في طريقه لحضور قمة إفريقية في القاهرة، ولم يتقبل خلو المائدة من دبلوماسية المطبخ التي كان يعيرها اهتماما بالغا. وحين تمنى عليه الأشقاء في السنغال دعما مباشرا لاستضافة قمة إسلامية، بعث بباخرة مجهزة تحولت إلى فندق عائم يقصده وفود الدول المشاركة للاستراحة من عناء الجلسات الصافية، إلى جانب حشد الدعم السياسي الذي أسهم في إنجاح التظاهرة الإسلامية الحاشدة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد تنبه مسؤولو البروتوكول إلى أن قافلة شاحنات تقل أصناف المأكولات المغربية، اتجهت من المغرب إلى ليبيا في مناسبة زيارة رسمية، وطالت رحلتها أكثر من اللازم. فقد أصر رجال الجمارك في بوابات العبور الجزائرية على مكوثها أكبر وقت ممكن، لكن ممون الحفلات كان اتخذ ما يكفي من التدابير الاحترازية، من خلال نقل بضائعه في برادات لا يؤثر فيها تقلب المناخ، وحدث أن قادة من الجزائر وتونس وليبيا كانوا ضيوفا على مائدة مغربية بأشهى أصناف المأكولات، فأفشل مناورة جزائرية صغيرة توخت إفساد ما كانت تقله الشاحنات المغربية.
الدبلوماسية الرومنطيقية لا تكون كلها محفوفة بالنجاح، لذلك أثيرت ضجة في وقت سابق حول فرار سفير مغربي تردد أنه باع مقر السفارة، لأنه كان سجلها في وثائق الملكية باسمه. فيما لا يغادر بعض السفراء غرف الفنادق التي كانوا يقيمون بها، إذ يتعذر إيجاد مقرات مناسبة. لكن الحسن الثاني كان وراء إدخال امتيازات جديدة يحظى بها السفراء، من قبيل توظيف طباخين مهرة من الطاقم الدبلوماسي. وكان قبل ذلك وراء استضافة مؤتمر فريد من نوعه ضم رؤساء مطابخ القادة، بما يتوفر لديهم من تأثير معنوي، على أصحاب القرار الذي يكون مريحا للأصدقاء، إذ يصدر عن غير بخلاء السياسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى