شوف تشوف

الرأي

نعي المثلث الذهبي

السمة المميزة للصراعات الراهنة في منطقتنا تتمثل في تأجيج الخلافات والتجاذبات بين الأشقاء، والتهدئة والمهادنة مع الخصوم والأعداء. فالتصعيد حاصل بين السعودية وإيران.. والاحتشاد الذي انضمت إليه الجامعة العربية مستمر إلى جانب الرياض ضد طهران. والتوتر المخيم على علاقات مصر وتركيا بات خبرا يوميا في وسائل الإعلام، وأخيرا، ألقى بظلاله على التحضير للقمة الإسلامية التي يفترض أن تنعقد في أنقرة خلال شهر أبريل المقبل.
وبينما تقطعت الجسور أو تصدعت بين إيران وأغلب الدول العربية، فإن الجسور انفتحت وامتدت بين طهران وعواصم الدول الكبرى وواشنطن في مقدمتها.. بحيث تصالحت مع الشيطان الأكبر وتخاصمت مع الأشقاء في السعودية وتدهورت مع أغلب دول الخليج.
وفي ظل تلك التفاعلات، يخيم الرضا والحبور على القيادة الإسرائيلية التي أصبحت الفائز الأكبر في كل ما يجري، حيث اتسع نطاق تعاونها الأمني مع أكثر من بلد عربي، وباتت تتحدث عن علاقة الصداقة المتنامية بينها وبين جيرانها العرب.
ومشهورة مقولة الدكتور جمال حمدان أستاذ الجغرافيا السياسية المرموق، التي تحدث فيها عن مثلث القوة الإقليمي الذهبي الذي يعول عليه لتحقيق النهوض المنشود. فقد تطرق في مؤلفه «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» إلى مراكز القوة الطبيعية في العالم العربي والشرق الأوسط، واعتبر أن مصر تمثل أحد رؤوس مثلث القوة الإقليمي الذي يضم إلى جانبها تركيا وإيران. وأرفق بكلامه رسما توضيحيا لخارطة العالم العربي بيَّن عليها مثلث القوة في المشرق والمثلث المقابل في المغرب.. وفوق الاثنين مثلث القوة الإقليمي الذي يضم الدول سابقة الذكر.
خرائط الواقع الراهن أحبطت أمنية الدكتور حمدان والحالمين بمستقبل «الأمة»، إذ انفرط عقد مثلث القوة الإقليمي، وحدث ما هو أسوأ، لأننا انتكسنا وتخاصمت الرؤوس حتى اقتربنا من أجواء حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر بين العثمانيين (السّنة) ضد الصفويين (الشيعة).
الصراع الحاصل جاء كاشفا عن حجم الفراغ المؤرق الذي يعانيه العالم العربي، الأمر الذي أفقده «البوصلة» الهادية ومن ثم النظر الإستراتيجي الصائب، الذي يعلي من شأن المصالح العليا للأمة. وفي هذا الفراغ أصبح العقل الرشيد عملة نادرة، وافتقدنا دور الكبار الذين يقومون بدورهم في الوساطة وتقريب وجهات النظر بما يؤدي إلى احتواء الحرائق وإطفائها. ونتيجة لاستمرار التوتر وتأجيج الصراع فإن جهود حل القضايا الإستراتيجية الأخرى في المنطقة تعثرت وواجهت صعوبات أكثر. لا أتحدث فقط عن التوحش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكني أيضا أعني القضايا الإقليمية الأخرى المهمة في سوريا واليمن وليبيا.
لقد اعتاد الأمين العام للأمم المتحدة أن يعين مبعوثين له إلى مناطق الصراع يحاولون إطفاء الحرائق فيها. وله الآن ثلاثة مبعوثين يحاولون فك عقد الملفات المشتعلة في سوريا واليمن وليبيا. ولا نعرف حتى الآن أن أحدا حاول إطفاء الحرائق المشتعلة بين السعودية وإيران أو بين مصر وتركيا. صحيح أن ثمة تسريبات تحدثت عن دور يقوم به الأمريكيون للتهدئة بين هذه الدول، إلا أن الأخبار لم تتأكد بعد فضلا عن أننا لم نجد أثرا لتلك الجهود حتى الآن.
وأيا كان رأينا في مقاصد تلك المساعي، إلا أنها تظل أفضل من لا شيء. وإذ نعترف بأنه لم يعد للعالم العربي «كبير» يلجأ إليه في مثل هذه الحالات، فإن ذلك لا يعفينا من التساؤل عن غياب دور الدول صاحبة الخبرة المشهودة في الوساطة وتقريب وجهات النظر بين المختلفين. أتحدث هنا تحديدا عن الجزائر وسلطنة عمان، اللتين يرشحهما تاريخهما للقيام بذلك الدور.
خطر لي أيضا أن أقترح دورا مشتركا يقوم به الأمينان العامان للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. إلا أنني عدلت عن ذلك حين أدركت أنهما ليسا مستقلين، الأمر الذي يجعلهما غير مؤهلين للقيام بالدور المنشود. الأهم في كل الأحوال ألا يترك الحريق مشتعلا وألا يظل العالم العربي موزعا بين شرائح المتفرجين والمهيجين أو المحرضين، في حين لا نجد أثرا للعقلاء والراشدين. هل نحتاج إلى معجزة في العالم العربي لكي نعثر على ذلك الصوت الغيور والرشيد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى