
بقلم: خالص جلبي
يقول إدوارد كار إن المنطق الداخلي للأحداث أكثر من فكرة القانون (لم نعد نتحدث عن قوانين تاريخية، بل إن كلمة «سبب» باتت قديمة الطراز: بسبب بعض الالتباسات الفلسفية، وكذلك بسبب ارتباطها المفترض بالحتمية، ولذا يتحدث بعض الناس ليس عن السبب في التاريخ، وإنما عن «التفسير»، أو التعليل، أو عن «منطق الوضع»، أو عن «المنطق الداخلي للأحداث»، أو أنهم ينبذون المنحى السببي «لماذا جرت الأحداث؟» لصالح المنحى الوظائفي «كيف جرت؟»، رغم أنه يبدو أن هذا السؤال حول كيفية حدوثها يعيدنا إلى مسألة «لماذا؟»(1).
هذا المنطق الخاص يصفه الفيلسوف الفرنسي هنري بوانكاريه على هيئة مزيج بين التعقيد والبساطة على الشكل التالي: «أن العلم والزمن يتقدمان معا باتجاه التنوع والتعقيد، وباتجاه الوحدة والبساطة، وهذه العملية المزدوجة والمتناقضة في الظاهر شرط ضروري للمعرفة»(2).
أما الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» فهو يصف هذه الجدلية الجديدة بالكلمات: «كل تقدم في العلم يبعدنا أكثر فأكثر عن التماثلات البدائية التي نلحظها في البدء، وفي اتجاه تمايز أعظم ما بين السابق واللاحق وإلى دائرة تتوسع باستمرار» (3).
خلط البشري بالإلهي
من أجل فهم التاريخ، يجب فهم الإنسان بشكل أفضل، لأنه هو الذي يصنع التاريخ، ولقد انتبه إلى ذلك المؤرخ «برلين»، الذي رأى أن تقدم علم التاريخ الحديث يشبه تقدم العلوم الطبيعية سابقا، فعندما تخلى الناس عن فكرة أنها مغلفة بإرادة إلهية غير قابلة للتفسير، أمكن اختراق فضاء معرفي جديد.
وكان هذا من بركات الفكر الإسلامي الذي انتقل من الأندلس، والذي رأى في الطبيعة كما رأى في التاريخ مصادر للمعرفة والحق، فالكون من وجهة نظر إسلامية يقوم على الغائية والجمال والنظام والبرمجة والسنة (القانون) والعدل (التوازن) والحق والتكامل (تراكب القوانين).
يقول عالم التاريخ «السير أشعيا برلين»: «لقد حدث في وقت من الأوقات أن اعتبر الناس تجديفا البحث في أسباب الظاهرة الطبيعية، طالما أن هذه الظاهرة محكومة بإرادة إلهية.
إن اعتراض السير أشعيا برلين على تفسيرنا لسلوك البشر، بالقول إن هذه الأفعال محكومة بالإرادة الإنسانية، ينتمي إلى نظام الأفكار نفسه، وربما يشير إلى أن العلوم الاجتماعية هي اليوم في نفس المرحلة التي اجتازتها العلوم الطبيعية، حينما كان هذا النوع من الحجج موجها ضدها».(4)
نحتاج في الواقع إلى الفصل بين الإلهي والبشري، حتى يمكن إدراك حكمة التاريخ الخفية، والقرآن يشير إلى قطاعين أو حقلين ويمنحنا فضلا منه وكرما الحقل الذي يمكن أن نؤثر فيه، ويرجع إلينا بالذات، وهو مسؤوليتنا ونحاسب عليه بشكل مصيري مزلزل، ومنها تنبع فكرة اليوم الآخر، التي تقوم على المراجعة والمحاسبة على ما جنت يدانا بإرادتنا الكاملة.
لذلك عرض القرآن في سورة «الواقعة» أربعة مشاهد مثيرة يتدخل فيها الجهد البشري والإرادة الحرة، جنبا إلى جنب مع الخلق الإلهي، بين «المني» الذي هو راجع لنا و«الخلق» الذي هو عمل الله (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه، أم نحن الخالقون)، فالخلق أمر إلهي بحت، ولكن الإمناء ولو سفاحا هو عمل بشري خالص.
وينطبق الكلام نفسه في جدلية مزدوجة بين «الحرث والزرع»، فالحرث لنا والزرع لله، بين النار التي (نوريها) نحن وإنشائها الإلهي (أأنتم أنشأتم شجرتها، أم نحن المنشئون)، وبين «شرب الماء الذي هو ضمن دائرة إمكانياتنا، وبين إنزاله من السحاب الذي هو عمل إلهي بحت» (5).
كيف يمكن التخلص من قبضة الحتمية التاريخية؟
لقد قام المفكر جودت سعيد بحركة رائعة عندما فتح الانتباه إلى حركة القرآن التاريخية، بأن تغيير ما بالنفوس هو خيار مربوط بالإرادة الإنسانية، وبذلك يمكن النظر من وجهة نظر مختلفة تماما عن المدرسة السلوكية والحتمية الماركسية.
وفي مقدمة كتاب «حتى يغيروا ما بأنفسهم» وضع المفكر الجزائري مالك بن نبي خلاصة هامة لهذه الحركة الفكرية، لعلها تشكل خلاصا ليس للعالم الإسلامي فقط، بل الفكر الإنساني قاطبة، فهي مساهمة قرآنية مباركة.
يقول بن نبي: «إن كل قانون يفرض على العقل نوعا من الحتمية تقيد تصرفه في حدود القانون؛ فالجاذبية قانون، طالما قيد العقل بحتمية التنقل برا أو بحرا. ولم يتخلص من هذه الحتمية الإنسان بإلغاء القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم، فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئا، إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لا ينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهادا جديدا للتخلص من سببية ضيقة النطاق…
وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ، إذ إن المراحل التي تتقبل، أو لا تتقبل التغيير، حسب طبيعتها، تصبح مراحل قابلة للتغيير، لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختيارا يتقرر في أعماق النفوس»(6)، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
هوامش:
(1) ما هو التاريخ ـ إدوارد كار ـ ص: 99
(2) عن كتابه العلم والفرضية- ص: 202
(3) عن كتابه الأساطير والمنطق- ص: 188 ـ ما هو التاريخ- ص: 101
(4) ما هو التاريخ- ص: 105
(5) سورة «الواقعة» الآية من 58 حتى 73
(6) حتى يغيروا ما بأنفسهم ـ جودت سعيد ـ تقديم مالك بن نبي ـ ص: 10.
نافذة:
من أجل فهم التاريخ يجب فهم الإنسان بشكل أفضل لأنه هو الذي يصنع التاريخ ولقد انتبه إلى ذلك المؤرخ «برلين» الذي رأى أن تقدم علم التاريخ الحديث يشبه تقدم العلوم الطبيعية سابقا





