
يونس جنوحي
عندما كان مولاي المهدي العلوي ورفاقه قابعين في السجن، بداية شتنبر 1963، كان المغرب على موعد مع انطلاق أولى جلسات البرلمان المغربي..
يحكي مولاي المهدي العلوي، مستعيدا هذه الذكريات:
«في الوقت الذي كُنا في السجون والأقبية السرية والعلنية، كان بعضنا ما يزال يتحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الشعب التي جُرّد منها، بعد انتخابه ممثلا للسكان في البرلمان، إثر تحقيق «الاتحاد الوطني» لانتصاره الكبير في الانتخابات التشريعية التي سبقت الكشف عن «المؤامرة» المزعومة.
وحيث أني كنت من الفائزين بمقعد في البرلمان عن دائرة سلا، كان علي أن أنجز عددا من المعاملات الإدارية، قبل الالتحاق بالمجلس النيابي، بعد خروجي من السجن، وأباشر مهامي ضمن فريق الحزب، بعد جلسة التعارف مع الأعضاء، وكذا الشخصيات الممثلة للاتجاهات السياسية الأخرى.
كان المجلس، آنذاك، يعج بأسماء مميزة لشخصيات من عيار ثقيل بصمت تاريخ المغرب، من بينها، على سبيل المثال الزعماء علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني وعبد الخالق الطريس وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد منصور وعبد اللطيف بن جلون، وغيرهم..
ونظرا لحداثة عهدي بجلسات المجلس، كنت، في أيامي الأولى، أكتفي بالإنصات للمداخلات المبرمجة في الجلسة العامة وفي جلسات اللجان، لاستيعاب ما يجري حولي من أحداث واستقراء الاتجاهات، التي تعبر عن رؤية كل فصيل للمشهد السياسي ووضعية البلد، بعد الفترة التي كنا مغيبين فيها قسرا عن تتبع مجريات الأمور.
ومما أثار انتباهي في هذه الفترة ضعف التنسيق بين أحزاب الصف الوطني، مما حدَّ من نجاعة المواجهة التي كان يتعين أن نقوم بها متحدين ضد الأغلبية «المصنوعة» من (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية FDIC) التي ينشط أعضاؤها لتمرير السياسات الرسمية، التي كنا نعتبر أن أغلبها لا يخدم مصالح الوطن والمواطنين».
كان أكتوبر 1964 المحطة التاريخية التي تعرف فيها مولاي المهدي العلوي على الحياة البرلمانية بعد أن أفرج عنه ورفاقه في شهر مارس من السنة نفسها. كانت، إذن، سنة برلمانية كاملة مرت في حين أن عبد الرحمن اليوسفي وعمر بنجلون، وهما قياديان بارزان في الحزب، محكومان بالإعدام..
انضم العلوي، في شهر أكتوبر، إلى واحدة من أهم لجان البرلمان التي تشكلت مع الدخول البرلماني الجديد، ويتعلق الأمر بلجنة الخارجية، حيث جمعته أقداره هناك مع الجنرال أوفقير وجها لوجه.. كيف سوف يتصرف برلماني خارج لتوه من السجن إثر قضية سياسية عند لقائه مع من كان يقال إنه المهندس الأول لحملة الاعتقالات تلك.. حكى العلوي في مذكراته عن هذه المرحلة:
«حضرت الاجتماع الأول لهذه اللجنة وشاركتُ بحماس في مناقشة عرض وزير الداخلية، بحضور كل من الجنرال أوفقير والدليمي، وبدأت المناقشة حول سؤال طرحه أحد نواب «الجبهة» عن وضعية السجون في المغرب، وتحديدا نوعية الطعام الذي يُقدم للسجناء، فكانت إجابة الدليمي، المسؤول عن إدارة السجون وقتها، أنه في العموم يتم احترام جدول تغذية متوازن يفي بحاجيات النزلاء.
وقال الدليمي إن هذا لا يعني أن اللحوم تُقدم للسجناء في كل يوم، بل تجتهد الإدارة، حسب الإمكانيات المتاحة لتقديم أنواع من الحساء والخبز والقطاني، إضافة إلى قطع من اللحوم في بعض الأحيان، فضلا عن وجبة الكسكس كل يوم جمعة.
استفزني هذا الكلام وأنا الخارج لتوي من المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، فعقبت على كلام المسؤول بكلام واضح، مفاده أن ما يقدم من وجبات للسجناء لا يليق ببني آدم، فالحساء (الشَّرْبَةُ) عبارة عن ماء ملون تسبح فيه الحشرات (الما والزغاريت كما يقول المغاربة بلهجتهم المحلية)، بينما الخبز مجرد قطع من الدقيق الرخيص، الذي مرت أيام على طهيه (خبز كارم تهرس بيه راسك)، أما وجبة «الكسكس» الذي يقدم أيام الجمعة، فيُستحسن أن لا أذكرها.
ولما ارتفعت نبرات صوتي، قام «أوفقير» من مكانه، فأحدث الكرسي صريرا يعكس حالة الغضب التي استبدت بالجنرال، في حين بقي الحاضرون صامتين، في حالة اندهاش وذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، يتوقعون ردة فعل المسؤول ورفيقه الدليمي.
وقبل أن يُغادر القاعة، مرّ من خلفي «أوفقير» وربت على كتفي، ووجه لي كلاما باللغة الفرنسية قائلا:
Sans rancune من دون ضغينة –
فأجبته:
Evidemment sans rancune-
طبعا، من دون ضغينة».





