حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

وطن نحلم به

فيروز فوزي
عندما تتصفح سفر البشرية يصيبك الذهول، مما يبدو لك حبرا أسود يحكي عن تاريخ الأمم والملل، فيما هو دماء قاتمة بفعل الأحقاد التي كانت تتقد فتقدح الشرارة الأولى لحروب مدمرة، حروب تحكي عن قرون دامية من التعصب والكراهية، تأتي على الأخضر واليابس وتأتي على شعوب وقبائل بادت بفعل الحرب.
لم تكن المجتمعات زمانئذ تنتظم تحت لواء أممي، ولا كانت تمتثل لقوانين دولية، تحت رحمة عقوبات زجرية تكبح جماحها وتكسر شوكتها. لقد سادت لقرون طويلة قوانين الغاب، بمنطق البقاء للأقوى. وكانت المجتمعات صورة مصغرة للشعوب في تدبير خلافاتها الداخلية، بين الأفراد وبين الجماعات.
كان «الجميع ضد الجميع» بتعبير «توماس هوبز»، في غياب عقد اجتماعي ينظم العلاقات، وفق تعاقد يفرض بقوة القانون.
وانتظرت الإنسانية مجيء «جون لوك» و«جان جاك روسو» لترسي أسس مجتمعات تنظم الحريات الفردية والجماعات، بموجب عقد اجتماعي يتخذ طابع الإلزامية.
استفادت الدول المتقدمة من تاريخ الإنسانية، وعكفت على تنشئة أجيال متشبعة بقيم وروح التعايش، رغم استفحال التيارات اليمينية المسكونة بالنزعة الوطنية الزائفة، والمعادية للمكونات العرقية والدينية حديثة الاندماج بمجتمعاتها.
بعد الحرب العالمية الثانية تنامى لدى الدول وعي بأهمية وضرورة التعايش بين الأفراد على اختلافهم، وراهنت الحكومات الغربية على المدرسة، بإقرار أنظمة تربوية تعمل من خلال برامجها التعليمية في كل الأسلاك، على ترسيخ قيم المواطنة والمساواة بين المواطنين.
إنه وعي يتجذر من منطلق تأسيس وترسيخ مبادئ الدولة الوطنية، التي بدونها تتعرض الأوطان للتصدع وتنهار بفعل استقواء العصبيات العرقية واللغوية والدينية، نتيجة تبني مفهوم قاصر للهوية. حيث يرتبط مفهوم الانتماء بالعرق واللغة والدين، لا بقيم المواطنة.
وهذا لا يعني بتاتا أن الدول المدنية المتحضرة تقيد حريات الأفراد في التعبير عن انتمائهم الأصلي، ولكنها ترهن هذه الحرية بواجب احترام الآخر المختلف والتعايش معه ضمن فضاء الوطن، بوصفه منظومة قيمية لا فضاء جغرافيا، مع الامتثال لقوانين الدولة الوطنية المشرعة للحقوق والواجبات.
وتقع مسؤولية التوعية على كاهل الأسرة والمربي والمفكر والفنان والشاعر والإعلامي ورجل الدين، في توجيه الأطفال والشباب وتوعيتهم كل من موقعه المؤثر.
هكذا تصبح قيم التعايش والقبول بالآخر المختلف مقياسا لمدى تقدم المجتمعات وتخلفها. كما تحدد قيم المواطنة قوة تماسك الأوطان، وقوة مناعتها ضد أي تصدع داخلي.
بهذا المعنى ما زلنا كمجتمعات عربية متخلفين عن الركب الحضاري، مع كل ما تملك بلداننا من مقومات النهضة الصناعية والزراعية، وبرغم التصنيفات التي تحظى بها من طرف المراكز والمؤسسات الدولية المتخصصة في تصنيف الدول، وفق مؤشرات معينة، تظل القيم الفكرية والتربوية هي المؤشر الأبلغ والأدل على تقدم المجتمعات. ذاك أن مؤشرات النمو الاقتصادي تتأرجح بين الصعود والهبوط، فيما بورصة «القيم» التربوية والفكرية السليمة تشكل صمام أمان المجتمعات، تقيها مخاطر الفتن الداخلية وتصدع الدولة الوطنية الموحدة.
إننا أمام تحد كبير ترسم نتائجه صورة مستقبلنا، الذي نضع حجر أساسه الأمس قبل اليوم.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدا من الخرسانة وعضلات مفتولة ورافعات عملاقة، لبناء الجسور وناطحات السحاب، ولكن ما نحتاجه على وجه الاستعجال الشروع في بناء الإنسان المغربي، إنسان الغد المؤمن بالقيم الإنسانية والمؤمن بقيم المواطنة والمضطلع بواجباته قبل حقوقه. ما نحتاجه اليوم أحزابا وطنية بالمعنى الفلسفي لا التاريخي، لتعبئة الشباب حول دوره في المساهمة من أجل خدمة الوطن، لا أحزابا تتحول إلى أوكار لتفريخ الانتهازيين والوصوليين وباعة الضمائر، ممن يغيرون جلودهم السياسية عند أول استحقاق انتخابي. ما نحتاجه اليوم ليس سياسات تتغير مع تعاقب الحكومات وذهاب رؤسائها إلى معاشهم، بعد تأمين ما تبقى من معيشهم. بل نحتاج سياسات استراتيجية، تأخذ بالحسبان مصلحة الوطن والمواطنين، لا مصالح الأحزاب التي تجعل كل قرار تشريعي رقما أساسيا ضمن معادلاتها الحزبية.
إن الإخلال بكذا شروط ومقومات هو ما يؤدي إلى «السكتة القلبية»، التي لا تصيب الاقتصاد، ولكن تجهز على ما تبقى من الضمير الوطني.
يترتب عن ذلك نشوء جيل من المواطنين الحاقدين على الأوضاع وعلى بعضهم البعض، جيل يترنح بين الخوف والكراهية، جيل من «فاقدي الأمل»، بتعبير الراحل الحسن الثاني.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى