شوف تشوف

الرأي

علم الكوسمولوجيا

بقلم: خالص جلبي

افتتح القرن السابع عشر بحادث جلل تقشعر منه الجلود، ففي السابع عشر من شهر فبراير عام 1600م تم حرق المفكر والفيلسوف (جيوردانو برونو) وهو على قيد الحياة، عن عمر يناهز الثانية والخمسين، بعد اعتقال وإذلال طويلين دام ثماني سنوات من قبل هيئة محكمة التفتيش، في ساحة عامة في روما، وعلى مرأى من جموع غفيرة شهدت منظر النار تأكل اللحم الإنساني الحي ببطء، إنذارا لكل عقل يحاول أن يسمح لنفسه بالحركة فيفكر أو يتساءل؛ أن هناك عوالم أخرى غير النظام الشمسي الذي ننتسب إليه. وحقا إنه لأمر مثير أن نتعرف – وبعد مرور أربعة قرون على هذه الواقعة الرهيبة- على طبيعة الأفكار التي كان يحملها أو يتحدث بها (جيوردانو برونو) عن طبيعة الكون الذي نعيش فيه ومغزى وجوده، بعد أن نقل إلينا العلم منذ فترة ليست بالطويلة اختراقا علميا جديدا في علم الكوسمولوجيا.
ينقل إلينا التاريخ من خلال بعض الأفكار المتفرقة التي نقلت عن (جيوردانو برونو)، الذي عاصر الفكر الانقلابي في فهم حركة الكون الجديدة، التي دشنها قبله (كوبرنيكوس) عام 1543م، ففي الحين الذي قلب كوبرنيكوس حركة الدوران بين الشمس والأرض، فأصبحت الشمس ثابتة – في رأيه – والأرض هي التي تدور حولها، بدل العكس حسب نظرية بطليموس السابقة والتي تبنتها الكنيسة يومها، فإن برونو اعتبر أن الشمس ليست ثابتة؛ بل تتحرك بدورها أيضا، وأن كل ما في الكون يتحرك ونظامنا الشمسي ليس الوحيد في هذا الكون، ولنتصور ثورية هذه الأفكار في وقت لا يوجد فيه (تليسكوب) واحد في العالم، لأن التليسكوب تم اختراعه بعد ذلك من قبل جاليلو.
وافق (برونو) على ما قاله كوبرنيكوس قبله عن دوران الأرض حول الشمس، ولكنه أضاف أن كل ما في الكون في حركة دائمة وليس هناك من ثبات في أي مكان، سوى أننا لا ندركها تماما، كما أن النظام الشمسي الذي نعيش فيه يتحرك برمته (وصدق في هذا، فالمجموعة الشمسية تدور حول المجرة وتكمل دورتها في ربع مليار سنة)، وأن نظامنا الشمسي ليس الوحيد واليتيم في هذا الكون البهي الذي نعيش فيه، وأن هناك عوالم لا نهائية، وأن الفضاء والزمن والحركة كلها أمور نسبية (وسبق في هذا النسبية بشكل غامض، وأن الكون يقوم على قاعدة التطور والتقدم والنمو، وهذا كشف العلم النقاب عنه الآن من ولادة نجوم وكواكب جديدة، كما في الكشف الذي دشنه علماء الكوسمولوجيا الفرنسيون قبل فترة قصيرة)، وأن التنوع والتعدد في الكون يخفي خلفه وحدة رائعة.
قال برونو في نفثة روحية معبرة: «وراء التنوع المحير الساحر في الطبيعة هناك وحدة أروع وأشد عجبا، تظهر فيها كل الأجزاء وكأنها أعضاء في كائن واحد، إنها وحدة تسحرني فأنا بقوة هذه الوحدة حر حتى لو كنت مستعبدا، سعيد في غمرة الحزن، غني في حمأة الفقر، حي حتى في الموت».
هل كانت أفكار برونو خطيرة إلى هذا الحد، الذي كلفته في النهاية أن يحرق بالحطب؟ في الواقع كان الخطر الأكبر هو شق الطريق أمام العقل كي يتنفس وتدب فيه الحياة، أكثر منه من مجموعة مشوشة من الأفكار؛ فالتاريخ شهد لـ(برونو) أنه كان شهيد (حرية) الفكر أكثر منه شهيد العلم، كما أن الفكر الذي تركه لم تضمه نظرية فلسفية متماسكة، فالخطر كان في الجرأة في مناقشة الأفكار المسيطرة، وتسجيل الاعتراض على نظام ونسق فكري لم يعد يؤدي دورا. وأدرك برونو وهو يقف في وجه جلاديه أن هذه النيران المشتعلة سوف تضيء التاريخ للمستقبل، فقال في هدوء: «ربما كنتم يا من نطقتم الحكم بإعدامي أشد جزعا وخشية مني، أنا الذي تلقيته». وكانت النتيجة أن المكان نفسه الذي شهد حرقه (بيازا كامبو دي فيوري)، شهد وضع نصب تذكاري عام 1889م علما للتاريخ.
كان الانعطاف الأول في قلب فكرة بطليموس التي لم تعد مؤهلة لفكرة حركة دوران الكواكب، واعتبرت الشمس هي مركز النظام بدلا من الأرض، وتحولت الأرض إلى تابع يدور مع مجموعة كبيرة من الكواكب الأخرى، مثل عملاق المجموعة الشمسية كوكب المشتري الذي هو أكبر بألف مرة من كوكبنا الأرضي، وكان معنى هذا تراجع مركزية الأرض، وتلا هذا تراجع أهمية الإنسان – في رأيهم – فحدث اهتزاز كبير ترك بصماته الفلسفية حتى اليوم، فلم يعد الإنسان بهذا الشكل مركز الكون، بل هو كائن يعيش على ذرة غبار في هذا الكون السحيق، وفي الواقع فإن هذا الاهتزاز الكوسمولوجي أعقبه بعد ذلك زلزال بيولوجي- أنثروبولوجي في الضجة الرهيبة التي أحدثها كتاب (داروين) عن أصل الأنواع وأصل الإنسان. ولذا فإن من الحكمة العظيمة أن يكتب الإنسان كتابا أو كتابين يحدث فيهما تغييرا عقليا كبيرا، أفضل من إغراق الأسواق بعشرات الكتب التي تكرر ما هو موجود، أو تجتر معلومات سابقة، أو تطرح ما لا جديد فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى